معايشة- أحمد الليثي ودعاء الفولي:
صراخ، هرج، ارتباك ساد الأجواء، غيوم تغطي السماء، نجيب محفوظ في لحظة حرجة، الجموع تتجه أنظارها قبل مستشفى الشرطة بالعجوزة، منظر الدماء لا يُنسى، محاولات المواطنين للتبرع، هرولة الأطباء، شغف المحبين، ودموع مفكري مصر لا تنقطع، في تلك الأجواء العصيبة كانت معركة أخرى تدور رحاها في شرق القاهرة، بالتحديد في إحدى شوارع حي عين شمس، هنا قرر الإرهابيون الاحتماء بالحي الشعبي على مقهى منزوي، فيما كانت طلقات الشرطة تترقبهم، فسقطوا بين قتيل ومصاب وهارب، بينما نال الرصاص من شاب فقد حياته في معركة القبض على من حاولوا اغتيال أديب العرب الأول.. مصراوي عايش مكان الاشتباكات، وتحدث إلى الأهالي ليعيدوا ذكريات الحدث الذي مر قبل 20 عاما، فيما كان اسم ''محفوظ'' لا يمثل لهم فنا أو إبداعا بقدر ما التصق الاسم بفقدان ''الولد''، وهالات دموية لا تزال تاركة أثرا لا يُنسى.
في هدوء وبحكم العادة كان ''محمد فتحي هاشم'' يفتح باب سيارته الشاهين، حمراء اللون للأستاذ ''نجيب محفوظ'' في طريقهما إلى الندوة اليومية بكازينو النيل، الساعة تشير إلى الخامسة والربع من مساء الجمعة الموافق 14 أكتوبر 1994، كانت السماء تصطبغ بحمرة واكبت اللحظة المواتية، وفيما بدأ محفوظ في الجلوس بتؤدة كان شاب في أواخر العشرينات من عمره قد قرر أن ينال شرف القضاء على من يعتبره خصما للدين، فراح يستل مطواه قرن غزال من جانبه الأيمن صدئة النصل ويغرسها بوحشية في رقبة أديب نوبل وبينما راح الدم يتدفق كشلال من جرح غائر وسط صراخ ''هاشم'' باعلى صوته ''الحقوا الأستاذ نجيب بيموت''، كان ''ناجي'' يمشي بثبات لمسافة 30 مترا مرددا عبارات ''الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر''، بعدما تناسى أن يطلقها قبيل القدوم نحو فريسته، وهو يستقل سيارة أجرة ذابت سريعا في الأفق.
على مقهى ''سليمان عودة'' بشارع جنينة الشريف بحي عين شمس، كان ''ناجي'' ورفاقه الثلاثة يجلسون بملابس شبابية على طرف المكان بعدما تركوا مسكنهم بمنطقة الخصوص، فيما تقبع أسفلهم حقيبة بلاستيكية سوداء، عندما اقترح ''حسين الشرنوبي'' على أصدقاء جريمة الأمس أن يحضر لهم بضع من سندويتشات الكفتة غير أن القدر كان ينتظره حين مرت بجانبه دورية الشرطة التي تحتفظ بصور المشتبه بهم في من حاولوا اغتيال ''محفوظ''، فألقت القبض عليه ثم وضعوه في جوال ملقين إياه في حقيبة السيارة الخلفية، بعد أن أرشد على مكان أصدقاء الإرهاب الثلاثة.
''أول ما عربية الشرطة جت من الشارع اللي جنب القهوة.. فرملت ورشت النار في الثلاثة اللي كانوا قاعدين''، يبدأ بها ''ياسر عودة'' حفيد صاحب المكان والمسئول عن المقهى حينها، يروي التفاصيل بصوت من يتحدث عن شريط سينمائي يجري أمام عينه للتو، وبينما أردت نيران الشرطة ''باسم شاهين'' قتيلا اُصيب آخران، فحاول أحدهما الهرب بينما أصابته رصاصة في قدمه، راح يضرب بكلتا يديه ''منقد النار''، _ يحتوي على فحم مشتعل يستخدم في الشيشة_ الأمر الذي جعل الضابط الذي يصوب تجاهه يرتبك، في تلك الآونة كان ''أحمد مصطفى حرحش'' أحد سكان المنطقة يهرع نحو مكان الحادث لتنجو قدمه من رصاصة مرت بجوارها بسلام، فيما استقرت أخرى في الرئة اليمنى لتخرج لحظتها من الظهر ''حاسس إننا سقعان''، قالها ''حرحش'' بصوت خفيض وهو يتكيء على كتف أحد أصدقائه قبل أن تخونه قدماه؛ فيسقط غارقا في دماءه، حينها كان الضابط يُكمل الركض خلف المتهم الذي تسلق سور مترو الأنفاق فيما لم يلحق به رجل الشرطة.
قبل لحظات من وصول سيارة الشرطة كان ''حرحش'' يجلس مع ''ياسر'' داخل مقهاه بعدما رفض الذهاب إلى السينيما مع أصدقائه ''أول ما سمع الضرب اتحرك عشان يشوف زمايلنا.. بس نصيبه بقى.. راح في الرجلين''، ينطقها ''محمد مصطفى'' شقيق الراحل الأصغر ساردا تفاصيل ما جرى لأحمد وقت الحادث ''العيال الإرهابية كانوا قاعدين على القهوة عادي زي أي زباين.. محدش شك فيهم عشان دي منطقة شعبية''، يكمل ''ياسر'' موضحا أن الشرطة تحفظت على تلك الحقيبة السوداء التي كانت في حوزة المتهمين بعدما اكتشفوا احتواءها على عدد من المتفجرات يدوية الصنع.
رغم مرور عشرين عام على تلك الواقعة لم تزل سيرة ''أحمد حرحش'' الرجل الذي سقط على إثر محاولات الشرطة القبض على من حاولوا اغتيال ''محفوظ''، ناصعة البياض يذكره جميع أهالي شارع ''توفيق حسان'' الكائن بعين شمس بكل الخير ''كان ابن موت''، عبارة من ثلاث كلمات تُلخص حياة الشاب الذي لم يكمل السادس والعشرين بعد، يقولها ''محمد'' الأخ الأصغر للراحل، وهو ممُسك ببطاقة شقيقه وجواز السفر، فارق السن بينهما كان خمس سنوات، لم يمنع عنه الأخ الأكبر يوما شيء ''اللي كان في جيبه مكنش ليه.. كان وردة البيت''، اقتسما سويا الأموال القليلة التي كان يحصل عليها من أي عمل يأتيه ''اشتغل شوية في النقاشة.. وساعات كان بيسوق تاكسي بس كان الوحيد فينا اللي متعلم ومتنور''، يصمت محمد لبرهة وهو يحكي تفاصيل القصة '' ابنك إرهابي''، كانت الجملة التي رددها أحد الضباط في وجه الحاج ''مصطفى حرحش'' والد القتيل؛ بسبب لحية أحمد الخفيفة ''أخويا كان بيسيب دقنه موضة.. بس هما فكروه إرهابي عشان وقع في الحادثة''، غير أن أهالي منطقة عين شمس وتجمهرهم جعل قوات الأمن تتفهم الأمر.
قبل محاولة الاغتيال بثلاثة أيام كان رفاق الإرهاب يترقبون منزل محفوظ حاملين أسلحة نارية، ارتدوا ملابس خليجية واشتروا ورودا لإيهامه بأنهم معجبين، فيما كان انشغالهم عن المراقبة للحظات سبيلا لخروج ''محفوظ'' في غفلة منهم، وحين صعدوا إلى شقته لمعاينة المكان، أخبرتهم ابنة ''محفوظ'' أنه لا يقابل أحدا بالمنزل ''اللي عايز يقابله يستناه في كازينو النيل''.
صبيحة يوم السبت 15 أكتوبر، أيقظ ''احمد حرحش'' زوجته ''بيهة''، طالبا منها إحضار بعض الملابس للعمل الجديد الذي جاءه أمس ''كان رايح يدهن شقة مع صحابه''، لم تعهد صاحبته اهتمامه بملابس معينة ''بس المرة دي طلب مني طقم كويس.. قاللي عشان الناس لما تشوفني تتبسط بيا.. وادتله كيس فيه هدوم الشغل''، تلك الفترة من حياة الزوجين شهدت عُسر مالي، لم يكن مر على زواجهما سوى 50 يوما بالتمام والكمال، مكث على إثرها في المنزل عدة أسابيع ضحيا فيهما ببعض مصوغات شبكة الزوجة، لذا عندما حان موعد الخروج صباحا طفق الزوج يُطمئن ''بيهة'' على حياتهما القادمة ''قبلها بيومين بعت دبلة من معايا وعملت من الفلوس اختبار حمل وكان إيجابي''، ابتسمت الزوجة على مضض بينما قلبها ينقبض ''كنت خايفة وحلمت قبلها إنه مات موتة مش طبيعية''، حانت لحظة الذهاب للعمل، وقف الزوج العشريني على باب شقتهما المكونة من غرفة وصالة، نظر للحبيبة بتمعن ''بقوله بتبصلي ليه كدة.. قاللي أنا هعوضك''، لسعادته بالطفل القادم كان على استعداد أن يقدم كل ما لديه ''لما عرف إني حامل قاللي أنا عارف بتبقوا محتاجين أكل.. انا هقبض وهشتريلك كفتة وتفاح وانا جاي عشان تاكلي''، ذهب الزوج وازداد خوف الزوجة دون معرفة السبب.
حتى الحادية عشر مساءً لم يحضر الزوج للمنزل، ''بيهة'' تجلس على أريكة في الانتظار، جرس الباب يرن، يأتيها أخيه الأصغر ''كرم''، يُخبرها أن زوجها قد اُصيب بذراعه وتم نقله إلى مستشفى ''هليوبولس''، من عزبة النخل هرعت إلى المستشفى ''لقيت كمية كبيرة من رجالة منطقتنا.. نزلت لواحد فيهم قولتله عايزة أشوف أحمد.. قاللي محدش هيعرف يدخل عنده دلوقتي.. روحي عند أهله وبكرة الصبح اعملي أكل وتعالي بيه''، قضى ''حرحش'' نحبه قبل أن يصل إلى المستشفى، تعمد الجميع عدم إخبار الزوجة، كانت تسير الزوجة في حالة يُرثى لها، باتت مضرب الأمثال، الجميع يعلم أن زوجها قد صعدت روحه إلى بارئها، فيما لا تزال هي تتشبث بهلاوس وأحلام تتمنى لو ظلت باقية، تمر وسط الجموع، فتضرب إحداهن كفا بكف، وتهمس أخرى بصوت خفيض ''دي مراته''، ويتمتم ثالث ''ربنا يصبرها.. دي لسة في عز شبابها''، وصلت إلى منزل الزوج ''أسوأ ليلة في حياتي''، اتصلت بأحد الأقارب ليرسل لها والدها والوالدة، ليخبرها الأب أن الزوج قد توفي قائلا ''عليه العوض ومنه العوض''.
بعد إفاقتها من غيبوبة الحزن والتعب، حاولت مرارا الحصول على تعويض، توقف ذلك على نوع الجنين الذي لم تكن قد علمت به بعد ''تعبت في الإجراءات وسمعت كلام صعب.. واللي كان يسألني ويقولي انتي جوزك كان إرهابي ولا لأ وكان بيصلي فين؟''، بعد ثمانية أشهر وقبيل ولادة ''بسنت'' ابنة الفقيد، حصلت على تعويض من الدولة قدره 10 آلاف جنيهات، بالإضافة لمعاش من التأمينات الاجتماعية، لا تعوض الأموال فقدها من كان يوما زوجها، والحبيب، تفاصيل الحكاية تجلب معها لعين الأرملة سابقا دموع لا تستطيع منعها ''مبقدرش أشوف صورته.. من كتر التعب اللي شوفته بعد ما مات''.
جنازة مهيبة خرجت من الحي الشعبي قبل مشرحة زينهم المستقر قبل الأخير لابن منطقتهم، فيما كانت سيارات الشرطة تحف المسيرة ''الظباط قالوا لاوبيا ابنك راح والسلام يا حاج. ولو فيه أي حاجة محتاجها إحنا في الخدمة''، يضيف بها ''محمد'' تفاصيل اليوم المحفور في ذاكرته ''اللي أعرفه إن أخويا اسمه مربوط بالاستاذ نجيب محفوظ.. بيقولو إنه كاتب عظيم..بس انا مقريتلوش حاجة.. أصل أنا أمي''، يتشهد الأخ الأصغر بأكثر من صديق للراحل للحديث عن مآثره، فيقول أحدهم ''كان ابن حلال ووشه منوّر''، فيما يردد آخر ''مصدقناش إنه مات.. مكنش ليه في المشاكل'' ويتبعه ثالث ''كل ما تجيله فلوس يعزم صحابه حتى لو كان فول وطعمية.. كان خيره على الكل''، فيما تلمع عين الشقيق وهو يقول بقلب صادق ''آخر مرة شوفته فيها لما كنا بننزله القبر وفيه حمام على رأس الشاهد.. ربنا يجعل مثواه الجنة''.
قبل الحادثة لم يلقِ ''محفوظ'' لما يُقال عن رواية ''أولاد حارتنا'' بالا، يسمع فقهاء يهدرون دماءه، يضغط عليه الأصدقاء ليصحبه حارس شخصي، فيرفض قائلا ''الأعمار بيد الله''، الكاتب ''جمال الغيطاني'' كان أكثر من يتوجس خيفة على حياته، اعتاد مسح محيط منزل أستاذه كلما ذهب لمقابلته أمام المنزل، موقنا أن من أراد الفتك به سيفعل ذلك بسهولة لانتظام مواعيده ودقتها، الحظ العثر جعله ينظر في عين صاحب محاولة الاغتيال؛ فعندما كان ينتظر الأستاذ وجد شابا يدور حول المنزل، ظل يركز عيناه عليه، فلما لاحظ الرجل الغامض أن الغيطاني يتابعه تشاغل بورقة كان يحملها بيده، ثم ذهب، يذكر الغيطاني وجهه جيدا، حتى ظهرت صورته في الأخبار عقب القبض عليه؛ فتعرف عليه فورا.
عباءتها السوداء لا تعكس عُمرها، ملامح هادئة لا تُنذر بحزن أو ضيق، لا شيء سوى ابتسامة تختبيء في أفق الروح فلا تظهر إلا ردا على تحية أحدهم لها، بحياء تقول عُمرها ''19 سنة.. في سنة تانية كلية خدمة اجتماعية''، ''بسنت أحمد'' لا تعرف الكثير عن والدها، لم يبق لها منه سوى صورة، وبعض حكايات قصها الوالد، فمن ربّاها هو زوج أمها، ''هشام محمد'' وصديق والدها الذي أئتمنته الأسرة على ''بيهة'' فكان بمثابة الأب لـ''بسنت''، لذا لا يزال محتفظا بصورة كبيرة للراحل وتفاصيل شبابه التي لا يفتأ يحكيها بزهو لصغيرتهما.
''لحد أولى ابتدائي مكنتش أعرف إن بابا متوفي''، عندما أخبرتها الأم اقتطعت تفاصيل استشهاده، ولم تهتم الطفلة بالمعرفة ''هي طول عمرها هادية ومش بتاعة مشاكل''، تقول الوالدة، طفولة عادية قضتها بسنت وسط أهلها من الأعمام ووالد الأب المتوفى ''محدش كان بيحسسني إن فيه حاجة''، زيارات ظلت تتردد فيها الفتاة الصغيرة على بيت العائلة الذي يبعد شارع واحد عن مكان سكنها.
فترة من التعب ألمّت بالفتاة التي لم تُكمل الثالثة عشر من العُمر حينها، بدأت تطرح تساؤلات ''كان والدها بيزورها في الحلم كتير''، فلم يكن من الأم إلا أن قصت الحكاية على الصغيرة ''لما ماما قالت لي زعلت شوية وبعدين خلاص''، نجيب محفوظ بالنسبة لها ''كاتب مشهور والناس بتحبه''، لا تحمل له ضغينة، لم تقرأ له قبل ذلك، هنا تدخلت الأم قائلة ''قعدت فترة بأكره نجيب محفوظ.. مفكرش ييجي يزورنا وانا اللي جوزي راح بسببه''، تعودت السيدة الأربعينية مشاهدة الأديب على التلفاز ''كانوا بيعملوله ندوات بتتذاع''، عالجت الأيام الكراهية في قلبها تجاهه، لكن حبل اهتمامها به انقطع.