كتبت- إشراق أحمد:
يجتمع الأصدقاء في مقهى ''الفيشاوي'' القديم بالحسين، يصحبهم الأستاذ إلى هناك، يهيمون في الحديث عن كل شيء، بالكلمات تارة والصمت أخرى يبادلهم نجيب محفوظ، لكن عند حديث الأديب تتوقف الكلمات، إن تكلم بجدية انصت الجميع، وإذا قرر المزاح تأتيه الضحكات خاضعة، فصاحب نوبل كان محبًا ''للنكتة''، يتلمسها في أحاديث الناس ويضحك ''من قلبه'' إن سمعها، وكذلك الحال إن قالها، لم يكن يستطيع أحد أن يجاريه إلا شخص واحد، ما كان فردًا من الجلسة، لكن إن حضر وبدأت ''القافية''، ترجح كفة الميزان له.
''عم إبراهيم'' بائع كتب، يتجول بين مقاهي الحسين، لكن ''الفيشاوي'' كانت مكان معروف له، يدلف حاملًا بضاعته بين يديه، يتجول في أرجاء المقهى المقسم إلى قاعات، يعبر ستائر ''الترتر'' المسدلة عليها، ويبدأ في مناغشة زبائنه، ''كان نكتة متحركة على الأرض'' كما يصفه الأديب يوسف القعيد، ما إن اجتمع حضور ''محفوظ'' جاء يجس قبالتهم.
قصيرًا، ممتليء الجسد، كان دائمًا ما يرتدي جلبابًا، يشبع تلك الحالة المنتشرة حينها في الثلاثينات والأربعينات، المتمثلة في كلمة ''سمعت آخر نكتة؟''، فـ''عم إبراهيم'' كان حاضرًا بها، وأما ''محفوظ'' فمهيئًا لها ''كان ابن نكتة خفيف الظل.. عندما يطلق تعليقً ساخرًا تجلل ضحكته مرتفعة صافية كأنها لن تنتهي'' كما قال عنه صديقه أدهم رجب وسجل كلماته كتاب ''نجيب محفوظ يتذكر'' للأديب جمال الغيطاني.
خفة ظل عميد الراوية وسرعة استحضار ''القافية'' التي عرفها المقربون إليه، فنقلوا بعض مواقفها، حال كلمات بعد فوزه بجائزة نوبل، إذ تهافتت الصحف والوكالات الأجنبية لأجراء المقابلات معه، فكانت مقولته الشهيرة ''أنا بقيت موظف عند نوبل''، فيما كان رده على سؤال يريد معرفة تفكيره بالمبلغ الذي قدمته إليه دور النشر مقابل نشر أعماله ''بفكر أسيب البلد وأهرب''، وحتى على فراش المرض في أحلك الظروف كانت له كلماته المازحة، فعقب واقعة محاولة اغتياله زاره ثروت أباظة بالمستشفى، وأجهش في البكاء، ليرد عليه محفوظ ''إيه يا ثروت هو أنت اللي انضربت ولا أنا''.
لم تتوقف ''القافية'' المحببة عند الأستاذ، لا يفقد فيها رونقه ورزانته المعروفة، يدور في فلك ''النكتة'' ما بين السياسة والمجتمع لا ينافسه أحد، إلا في حضور عم إبراهيم، ظلت الضحكات تنصب في كفة عم إبراهيم حتى وفاته في الستينيات.