معايشة- أحمد الليثي وإشراق أحمد:
خلال 15 سنة كاملة، ظلت الساعة الأولى في يوم نجيب محفوظ معروفة للجميع، خط سير لا يتبدل، من منزله الكائن بالعجوزة وصولاً لقلب ميدان التحرير مرورًا بكوبري قصر النيل، فيما كانت ساعته من السابعة صباحًا حتى دقات الثامنة يتخللها لقائه بشخصيات أربع، تبدو في خلفية المشهد، لكنها ظلت تصنع تفاصيل تلك الساعة على مدار وجود ''محفوظ'' في حيزها.
المستقر الأول كان أمام فرش جرائد ''عم رمضان''، يسلم الرجل صاحب الباع الطويل في المهنة كل الصحف والمجلات لمحفوظ، فيما تمر الساعة ليعاود عميد الرواية أمانته على الفرشة ذاتها ويدفع ثمن نسخة جريدة الأهرام فقط، هكذا كان الاتفاق غير المكتوب بين طرفي العقد حسب رواية الرجل الستيني.
في الطابق الثاني من مقهى على بابا، بمجرد أن يجلس محفوظ على طاولته، واضعًا الجرائد على استعداد لقراءتها، يسرع عبد الله كساب –جرسون المقهى- إليه بالفنجان الأول من القهوة، بينما تمر عين محفوظ باستمتاع على ميدان التحرير، يأتي احتساءه ''وش القهوة'' فقط، لتكتمل أجواء الأديب في تلك اللحظة.
كطقس يومي كان الشاب صابر حسن علام يزور مقهى علي بابا الكائن بميدان التحرير بعد منتصف الليل، غير أن وفاة صاحب المكان يوناني الجنسية جعل زوجته تغلق الأبواب في وجه الزبائن مبكرًا فيما كانت طرفة يطلقها الشاب الثلاثيني وقتها، سببًا في قلب الأمور رأسًا على عقب ''تبيعي لي المحل ده''، قالها صابر بعفوية فجاء الرد بالإيجاب، كان ذلك في عام 1968.
باحة منقسمة بين طاولتين لتقديم المشروبات المعتادة لأي مقهى، وأخرى للخمور، بينما تصف الكراسي من حولها، كان مقهى على بابا قبل أن يحوله المالك الجديد إلى هيئة مختلفة تحمل الاسم ذاته، في البداية كان الرفض مصير المكان من قبل عائلة علام المحافظة فالشاب الثلاثيني ينتمي لاثنين من كبار صناع المطابع في مصر، وكذلك كانت مهنته الأساسية في السيارات والمعمار علاوة على وظيفة في الطابع الأميرية، رُفت منها على أثر الغياب المتوالي ''فضلت إن المكان يبقى من غير خمارة وظبطت الدور التاني اللي كان بيقعد فيه الأستاذ''.
مع نهاية السبعينيات حضر الأديب نجيب محفوظ للمرة الأولى إلى المقهى، عرفه صابر من الوهلة الأولى ''هو في حد ما يعرفش نجيب محفوظ ده علم''، وكذلك عاداته التي لم تنقطع حتى حادث محاولة اغتياله، صامتًا كان، يحترم خصوصيته، يعرف أن للأديب جلال وهيبة، فيما كانت هناك لحظات استثنائية يُجبر خلالها صابر على الحديث مع محفوظ ''لما نزلت رواية الحرافيش الناس كانت متجننة بها وكنت بنقله تعليقاتهم'' يوضح الرجل الذي دخل عامه الثمانين قبل عامين أن محفوظ كان يؤثر الصمت، لكنه كان في غاية الاحتفاء حينما يكون الحديث عن أدبه وأعماله.
كانت عادة محفوظ هي شرب فنجانين من القهوة ''الوش فقط''، الأول يأتي بمجرد جلوسه، والثاني يحين موعده بمرور نصف الساعة، غير أنه حين كان عم ''عبد الله كساب'' يتأخر، كان الأستاذ يصفق بيديه اليمنى على اليسرى فيهرع على آثرها ''كساب'' ملبيا الأمر، فيما كان موعد ''عم عزيز'' ماسح الأحذية الذي يحمل كتفه الأيسر قطعة معدنية صفراء اللون -رخصة المهنة من الحي، يأتي مع دقات الثامنة إلا الربع، حاملا حذاء الأستاذ ''نجيب'' قبل أن يعاوده إياها في خمس دقائق بعد أن يفرغ من تلميعه.
ربما كان وجود محفوظ في المكان شيئًا يدعو للفخر لكن الفخر لم يكن وحده العائد على الحاج صابر وبخاصة بعد حصول محفوظ على جائزة نوبل ''المكان ده شهد على وجود كل الصحف العالمية وأشهر الإذاعات والوكالات على ضهر الكوكب''، بملامح خطها الزمان على وجهه، وشارب أبيض صغير قسم وجهه نصفين، وعوينات طبية عسلية اللون يحكي الرجل الثمانيني بثغر مبتسم فارقه الأسنان عن الأيام الخوالي، وكذلك عن ''البقشيش'' الذي دفعه نجيب لحظة حصوله على نوبل ''وزع ميت جنيه على العمال وسمعت أن الجايزة بمليون'' يقولها مطلقًا ضحكة قبل أن يكمل الثناء على عميد الرواية العربية.
رغم أنه لسنوات طويلة ظل صابر –حينما تتيح له فرصة التواجد بالمقهى- يرى الأديب العالمي، غير أن استمتاعه الأكبر الذي لا يضاهيه شيء حينما يشاهد أعماله السينمائية، فظروف الحياة ومرض الرجل الثمانيني من بعدها كانت حائل بينه والقراءة لمحفوظ.
الحياء من رؤية الأستاذ على فراش المرض، لما في ذلك من خصوصية تقتصر على دائرة المقربين، جعل الحاج صابر يؤثر ألا يذهب لزيارته، ويتلمس أخباره من بعيد شأن محبيه، لكن مع خبر وفاة محفوظ هرع صاحب المقهى للمشاركة في التشيع ''ده واجب مينفعش أتأخر عليه ده غير أنه عِشرة''.
تحت الأمطار الغزيرة جلس الأستاذ نجيب ممسكًا بشمسية تقيه هطول المياه فيما كان عم رمضان يلتحف ببطانية صوف، بينما كان يجلس في الوسط منهما الأستاذ جلال دويدار رئيس تحرير جريدة الأخبار حينها ليعقد حوار صحفيا بين أديب نوبل والرجل الذي يشتري منه الصحف، ليجد عم رمضان صورته متصدرة للصفحة الأولى يبيعها للزبائن في اليوم التالي ''الأستاذ نجيب كان شخص طيب جدًا ومؤدب للغاية'' يتحدث عم رمضان عن تفاصيله مع محفوظ التي أضحت عادة ثابتة، فيما يوضح الرجل الستيني أن محفوظ لم يكن كثير الحديث مع المارة في الشارع، مكملاً ''كنت ببيع روايته هنا جنب الجرايد ولما صادروا أولاد حارتنا كنا بنبيعها في السوق السوداء زي المخدرات''.
مع نهاية الثمانينيات كان مقهى علي بابا قبلة دراويش الروائي الأعظم، وكان عوض بحر واحدًا منهم، يقف أمام المكان مع دقات السابعة يتلهف لرؤية محفوظ، بات المقهى عشقه الأول، ورغم انقطاع محفوظ عن المكان بعد محالة اغتياله ظل علي بابا الجهة الأقرب لقلب الشاب العشريني، لذا حين تبدل اسم المقهى غير مرة، نال الأمر من قلب عوض، فعقد العزم على أن يعيده سيرته الأولى واسمه الأصلي ''لما كنت أجي والاقي الناس مش عارفة قيمة المكان كنت بحس أن التراث بيضيع'' يقولها عوض وهو يشير إلى تلك القاعة التي صنعها خصيصًا باسم نجيب محفوظ حاملة صوره ورواياته وكراسي خشبية عتيقة المظهر تنبيء عن تراث من نوع خاص.
مع حلول الذكرى الثامنة لأديب نوبل، وبرغم مرور 20 عامًا على رحيله من مقهى علي بابا لكن الشخصيات التي لازمت طقسه اليومي لا تزال تحتفي بعبق التاريخ، فيقول عم رمضان إن مصر خسرت هرمًا رابع، ويردد الحاج صابر مآثر محفوظ وخلقه الدمث، فيما ينعي عوض حال البلاد التي لم تعد تعني بمكان محفوظ الأثير مرددًا بحسرة ''الحي بيهددنا إنه يزيل الجزء الخاص بالأستاذ..أنا معنديش مشكلة ياخدوا مني المكان بس يحافظوا على هيبته وتراثه''.