كتب- محمد الشرنوبي:
نعتقد، عن يقين، أن نجيب محفوظ عاش حَيَوَات عدّة بعدد شخوصه الروائية، والتي منحها روحه وخياله فمنحته حياة تدنو من قرن من الزمان كان فيها ناطقا بأحوال أهل المحروسة المتقلّبة، إلا أن حياته بعد محاولة اغتياله يوم الجمعة 4 أكتوبر 1994 كانت الشاهد الحقّ على نجابته الاستثنائية.
تتردّد في عقل نجيب محفوظ، منذ أن خرج من مستشفى الشرطة بالعجوزة، إثر دخوله إليه مصابا بجرح قطعي في الرقبة على يدّ متطرف إسلامي أراد أن يقتص لما اعتبره ''إهانة لدينه''، كلماتُ فريقه المعالج، والذي أكد على صعوبة الحالة، فقد فقدت الذراع اليمنى اتصالها بأعصابها، مما يقلل من إمكانية عودتها للحياة إلا بتمارين العلاج الطبيعي الدؤوبة.
مُتجرِّدًا من كل ألقابه المُستحقَّة، وفي صبيحة يوم شتويّ مُنتظَر، موعده المفضل للكتابة، ينفرد الأديب، وفقط، بقلمه بعد أن اعتزل الصخب الذي يمقته، يستحضر طقوس الكتابة التي اعتادها سنين عددا، ويجهّز نفسه لملاقاة خليله الأعزّ الأبقى الذي أذاع صِيته وصنع شهرته، يستشعر هذه المرّة وجلاً ورهبة وهيبة لم يعتدها معه، يده اليمنى صارت عاجزة سقيمة لا تجاوبه، وأصابعه أضحت كليلة جامدة لا تستجيب لإرادة الكتابة الحارقة الموجعة، يُعزِّي نفسه على مضض بأنه الـ ''نجيب'' الـ ''محفوظ''، عميد الرواية العربيّة، الأوحد الذي دانت له جائزة نوبل بالطاعة والولاء.
تتعدّد مواعيد اختلاء الأديب النجيب بقلمه، وكصديقين مُقربيّن أو غريمين لدودين، على الأقل نزولا على واقع اللحظة المتمرّد، يستحضرا سويًّا ما كان وما سيكون، يتنازعا على أوليّة وأولوية دوريهما، أليس للعقل المُدبِّر والخيال المُحلِّق والموهبة الخبيرة موقعُ الصدارة والتقديم، ويأتي تابعًا مختارا دورُ المنفّذ؛ دور القلم الذي يسجل ويدوّن مخافة الذاكرة الخؤون.
وطّن نجيب محفوظ نفسه على فترة نقاهة شاقة، يجاهد فيها قوانين الجسد، يستعين فيها بصرامته وحزمه وتطويعه للواقع حتى يسير عادة من عاداته اليومية، لا سيما وأنه رجل العادة الخارق للعادة، رجل منضبط كساعة سويسرية.
على خطى طفل في الثمانين، يتلقف نجيب محفوظ قلمه، يداعبه بأصابع عاجزة متصلبة تأبى أن تستجيب لرغبة الكتابة الحارقة، يعرف رسم الحروف ويدرك معانيها، تنتظم في ذهنه جملا منسوجة من غزوله ''المحفوظية'' الخاصة، إلا أنها تستحيل على التدوين والتسجيل بقلم طالما كان يطاوعه ويلين في يده ويجاري ذهنه المتقدّ.
تحاصر الأسئلة الصعبة الأديب النجيب، هل يستجيب لإلحاح رفاقه وندمائه الأقربين في تقديم المساعدة، ألا يكفيهم أنهم صاروا مطلعين على حياته الخاصة كما لم يطلعوا عليها من قبل، يريدون أن يطلعوا على لحظات نشواته الخاصة جدا، لحظات غرامه النادر لحظات التقائه بربة الكتابة، هل يمتنع عن تلبية مساعدتهم فتمتنع عليه النشوة وتدير له وجهها البهيّ، هل من وسيلة أخرى ترضي الأديب وتلبي له المحافظة على الخصوصية التي يبتغيها.
إن الشيخوخة، وبلغها نجيب محفوظ، أحوجته إلى ترجمان، أحوجته إلى بصر بعد أن صار شبه أعمى، أحوجته إلى سمع بعد أن صار شبه أصمّ، أحوجته إلى بشر وناس بعد أن صار رهين واقعه الذي يحبسه عن مرأى الحياة، فكانت جلساته مع ''الحرافيش'' عينين وأذنيين له، وكان سكرتيره الخاص الحاج محمد صبري في خدمته وينتظر إشارة.
ربما لا تسعفنا اليقظة بالإجابة كما يسعفنا النوم، كان محفوظ، في نومه وصحوه، مشغولا ومهموما بمعضلة الكتابة التي تكره التجاهل والاستكانة والرضوخ للواقع، كان محفوظ عليما وخبيرا بأسرارها وقد عاش بها وعليها ولها عمره المديد، كان محفوظ موقنًا أنها تتحرّق له منتظرة.
يواظب نجيب محفوظ على تمارين العلاج الطبيعي، نصف ساعة يوميا من التدرب على الإمساك بالقلم، والذي اختاره عريضا وكبيرا حتى يحكم السيطرة عليه، وبأصابع مرتعشة يكتب الحروف مهزوزة على الورق، يكتب كطفل على الورق ''بسم الله الرحمن الرحيم'' مرات ومرات، يكتبها بخياله الفياض وشوقه الحارق، وتارة أخرى يكتب ''نجيب محفوظ''.
بعد أربع سنوات يقابل محفوظ رفقاءه فرحا مرحا متقافزا هاشا باشا، يسر إليهم بسره العزيز، لقد نجح اليوم في الكتابة دون أن ينزل من على السطر، كان يكتب بالبصيرة والإرادة.
نجح محفوظ في الاختبار الأصعب في حياته، ملك القلم والورقة مرّة أخرى، دانت لها أدوات الكتابة، فحقّق لشيخوخته نصرها العظيم.
لم نكن ننتظر من محفوظ بعد الثمانين إبداعا آخر، كنا نحتاجه فقط شيخا جليلا عزيزا حاضرا بيننا نستقي أخباره من أصدقائه المقربين، وقد تكاثروا حوله، كنا قد رضينا بما أودعه حافظتنا الأدبية وذاكراتنا المصرية من جواهر ولآلئ نادرة، لكن ما يرضينا لم يكن ليرضي محفوظ أبدا.
تتوالى الأخبار أن محفوظ استلهم من أحلامه مادة جديدة لإبداع مختلف، محفوظ يستيقظ من نومه ليكتب أو يملي أحلامه عن ظهر قلب، أحلام فترة النقاهة، نقاهته ونقاهتنا، والتي جاءت ''فتحا مبينا'' في مسيرة محفوظ، اتسمت بالتكثيف والاقتصاد والإيجاز ، جاءت لتؤكد حياة إبداع محفوظ بينا في اليقظة والمنام.