حوار- يسرا سلامة:
قُبلة منه على جبين الأديب، لازالت في صورة تجمعهما، الصديق هو الفنان التشكيلي ''محمد الشربيني''، أحد الأصدقاء المقربين لملك الأدب الواقعي المصري، في ذكرى وفاته، لا تزال الذكريات حاضرة في ذهن الرفيق، تجليات تلمع في عينيه عند ذكر صفاته، معطرة بحلم أن يتم تخليد ذكراه، وحنين لجلسة تعود مرة أخري في الزمن المر، عن الحنين والذكريات تحدث الفنان عن الأديب.
حضور الأستاذ ملأ حياة الفنان التشكيلي، ترتيب لحياته ونظامها بعد أن تعود زيارته يومًا بعد يوم، حياة ارتبكت بعد رحيل الأديب في 2006، يذكر لـ''محفوظ'' الثقل الصوفي بداخله، وعشقه لـ''أم كلثوم'' و''عبد الوهاب''، واصفًا الأخير بـ''الصوت الطِعم''، متعة تتجلي بوجبة ''فول وطعمية وباذنجان'' أكلته المفضلة، حبُ لكل ما يحبه الشعب، وحب للنكتة، ليصف ''أحمد عدوية'' بـ''صوت الحارة المصرية''.
قصة ''الشربيني'' بدأت مع الأديب في الستينات، وقتها كان الفنان التشكيلي يخطو داخل جلسة ''محفوظ'' في قهوة ''ريش''، ليجلس الشاب بأحد الكراسي البعيدة عنه، جلسة تلو الأخرى حتى أصبح الأديب حاضرًا في حياته، ليهاجر ''الشربيني'' إلى الخارج، ليعود مرة أخرى لدرب الأديب في بداية العام 1989م، صديقًا ومستمعًا ومصورًا فوتوغرافيًا، وراسم لبورتريه عن الأستاذ في مكانه بقصر النيل.
''محفوظ'' .. شغوفًا بالفن التشكيلي
بدأ اهتمام ''محفوظ'' بالفن التشكيلي، وقت أن نصحه ''العقاد'' بأن يبحر في كل الفنون لكي يصبح أديبًا عظيمًا، ليتشرب الأديب الشاب النصيحة ويتجلى بصره في لوحات الفن التشكيلي، بدأت مبكرًا في عام 1923، من كتاب ''الفن في كل العصور''، والذي يحوي أشكال فنية من الكهوف مرورًا برسومات عديدة، ليضع الأديب ورقة خلف كل صفحة من الكتاب، ليتأمل أياما في اللوحات المرسومة، لتبدأ متابعة ''محفوظ'' لجديد الفن التشكيلي.
خطوات قطعها ''محفوظ'' إلى معارض تشكيلية عديدة، متابعة لم تتوقف إلا عندما ضعُف بصر الأديب، كان يفضل لوحات مثل ''العودة من الحقل'' والراحة لـ''راغب عياد''، كما اتخذ من الرسامين أصدقاء مثل الفنان ''صلاح طاهر''، ومتابع لأعمال ''جميل شفيق'' و''بهجت عثمان'' و''محمود سعيد'' و''محمود مختار''.
ذلك الاهتمام بالفن التشكيلي تبدى في وصف الأستاذ للأماكن، ذاكرا أوصاف الأمكنة بين أسطر رواياته، يتحدث الفنان التشكيلي ''كان لديه قدرة غريبة على الإحساس بالمكان''، مدللًا على ذلك بوصف التكية في ''الحرافيش''، وعلاقة وصفها بالبشر، ليشعر من يقرأها بضخامة المبنى، يتجلى أيضًا في زقاق المدق والثلاثية، ووصفه لـ''ميرامار''، حيث قال ''نجيب'' إن بعضًا من تلك الصور من خياله، كوصفه للبار والغرف والبيوت والحارة، فهو يصمم أماكن الأحداث في رواياته.
لدى ''محفوظ'' ..الكتابة ''غريزة'' و''الحكيم'' أحق بنوبل
''الكتابة عندي زي الغريزة''.. يذكر ''الشربيني'' ذلك القول لـ''محفوظ''، متابعا أنه تفرغ بالكامل للكتابة، أصبحت مثل الطعام والشراب، ليصنع المشروع ''نجيب محفوظ''، كان يخرج الأديب كل يوم، ويعود ليكتب ما حدث معه من مواقف بالأسماء والأحداث، فمنذ زواجه في سنه الأربعين، لم تكن له حياة اجتماعية، واضعًا جُل طاقته بين أسطر رواياته، وكانت مشاركاته مقتصرة على العزاء، كما أن ''محفوظ'' كان واحدًا من قلائل حضر عزاء الأديب ''يحيى حقي''.
في مفكرة صغيرة دوّن ''الشربيني'' تفاصيله باللفتة، متشابها في الأمر ذاته مع الأستاذ نجيب، من حزن وفرح، ألم وشجن وبهجة، أسرار خاصة بمن حوله، ورؤيته لهم، معتبرا الأمر تاريخ يسجل في بضع وريقات، وربما كانت لبنة لرواية أو قصة، عمل أدبي أو مقال، غير أن حادثا صادما جرى قلب الموازين رأسا على عقب؛ وقت أن اطلع أحد زملاء الفنان التشكيلي على أحداث تخصه داخل المفكرة، فانزعج، واحتدم الأمر ليصل بـ''الشربيني'' إلى تمزيق أفكاره المدونة على سطح الأوراق، وفيما كانت القصة تروى على مسامع الأستاذ نجيب، راح يتأمل الواقعة، أخذ نفس عميق قبل أن يتخذ قرارا مثيرا؛ أغلق باب الغرفة وأخرج جميع مفكراته الصغيرة وبدأ في حرقها واحدة تلو الأخرى، بعدها أخبر الشربيني بالسر ''عشان لو مت محدش يتأذي من كلام كتبته في حقه''.
وفاء ظل يحمله ''نجيب'' لمعلميه الأوائل كما شاهدهم؛ ''عباس العقاد'' و''توفيق الحكيم'' و''يحي حقي''، وحتى بعد وفاة ''الحكيم'' كان لا يجرؤ على الجلوس فوق مقعده، وإنما يؤثر مقعد الضيف أمامه، يذكر لـ''الشربيني'' قلقه من أن يحظى بجائزة ''نوبل'' في حياة ''الحكيم''؛ إذ كان يرى أنه الأحق بها، وهم أضافوا للرواية والأدب أعظم مما فعل ''محفوظ''.
ظل ''محفوظ'' متمسكًا بالوظيفة الحكومية ''الأدب ما بيأكلش عيش''، كان سبيله إلى المال كتابة بعض السيناريوهات يخرجها "ًصلاح أبو سيف''، قبلها كان متقلدًا لمنصب وكيل وزارة الأوقاف، ثم منصب في جهاز الرقابة، لم يتم إنتاج أي أفلام له طوال منصبه بها، ليذكر أنه لم يستغل منصبه لصالح أعماله، حتى حُلّ عليه غضب من آرائه الوفدية، لينقل إلى المكتبة المركزية في الأزهر، لم ير في الأمر عقاب، بل فرصة له للاطلاع على الأعمال الكاملة للروائي الفرنسي ''مارسيل بروست'' مجموعة ''البحث في الزمن الضائع'' باللغة الأصلية لها، ليتأثر به في كتاباته للثلاثية.
من ذكريات الأديب يحكي ''الشربيني'' أنه رتب ''أحلام فترة النقاهة'' في ذهنه، لتكتمل مجموعة الأحلام بداخله، ويمليها لتُنشر على مسامع الحاج ''صبري''، السكرتير السابق لـ''توفيق الحكيم''، فتظهر للقراء بعدها في ''نصف الدنيا'' برئاسة ''سناء البيبسي''.
يرى ''الشربيني'' أن ''محفوظ'' قدم للأدب العربي ربما أكثر ممن قدم ''شكسبير'' للأدب الإنجليزي، فلم تكن رواياته إضافة للأدب فحسب، لكنه تنبأ بالأحداث في مصر، وكان وفقًا لـ''الشربيني'' من أنصار وصول الإسلاميين للحكم، رغم اطلاعه على تجربة الإسلاميين في الجزائر، ليرى الصديق أن فيما كتب ''الشربيني'' برنامج لتنمية مصر.
ملامح الشخصية المصرية تجسدت بقلمه كما يرى ''الشربيني''، ليجسد بقلمه شكل الحياة، حتى تحولت بعضها إلى أفلام سينمائية، لم يغضب ''نجيب'' لأي من الأعمال السينمائية التي جسدت أعماله، كان يرى أن مسئوليته تنتهى عند حدود الكتاب، يعود ''الشربيني'' من وقت لآخر لأحب روايتين إلى قلبه، وهم ''الحرافيش'' و''ألف ليلة وليلة''.
كما نما حزن جلل في داخل الأستاذ بعد أن علم بإعدام منفذي محاولة اغتياله، كان يرى إنهم مظلومين؛ فهم لم يقرأوا روايات، ليلوم الأديب نفسه ومجتمع على عدم تعليمهم.
جلسات ''الأديب'' مع حرافيشه
في أواخر أيامه، توزعت جلساته بين الأصدقاء، لينقسم اليوم إلى جهة يذهب إليها، يوم الأحد شبرد القاهرة، والأثنين فندق نوفتيل، الثلاثاء فرح بوت، الأربعاء سوفتيل المعادي، الخميس فلفلة في المنيل، والجمعة يذهب إلى الطبيب ''يحيى الرخاوي''، والسبت إجازة بمنزله، ليكون الثلاثاء يوم الأصدقاء الأقرب مثل ''الغيطاني'' و''الأبنودي'' و''نعيم صبري''، بجانب حضور من القنوات الفضائية.
شخصيات عديدة ترددت إلى جلسات ''محفوظ''، يذكر ''الشربيني'' منهم أيضًا الكاتب ''حسنين هيكل''، والعالم ''أحمد زويل''، والدكتور والسياسي ''عبد المنعم أبو الفتوح''، كما حضر إلى مجلسه كلا من الفنانة ''فاتن حمامة'' و''فرج فودة'' و''على سالم'' و''سعد الدين وهبة'' وتوفيق صالح ونادية لطفي وفريدة الزمر، حتى أطلق الفنان ''أحمد مظهر'' اسم ''الحرافيش'' على رواد الأديب.
تبدأ جلسة الحكاء بقراء أحد الحضور للأخبار شفهيًا للأستاذ، كان يبدأ ''القعيد'' في جلسة الثلاثاء، يذكر ''الشربيني'' اهتمام محفوظ في أيامه الأخيرة بالشأن العام، تبدأ بالشأن المصري ثم العربي ثم الدولي، ليتابع باستمرار جريدة الأسبوع، لمعرفة جديد القعيد والأبنودي، الكتاب فيها حينها، ليأتي بعضها معرفة جميع أخبار الأطياف السياسية، من المعارضة للنظام، ليتابع بحزن شديد خبر اختطاف ''رضا هلال''.
يذكر ''الشربيني'' إن لـ''محفوظ'' تواضع شديد لدرجة مخجلة ظهر في جلساته، كان لا يفضل الاستماع إلى كلمات المديح من أعماله، وينتبه إلى النقد، ويتجنب التعليق على من يهاجمه، كان من بين الاتهامات انتقادات من اليسار بسبب ميله إلى الوفد بانه ''مثقف برجوازي''، ليذكر صديقه إنه كان ينأى بنفسه عن المعارك.
لم تتوقف جلسات ''محفوظ'' عقب وفاته، حتى ظل الأصدقاء باقون على التجمع يومًا في الأسبوع تحت اسم ''جمعية محبي نجيب محفوظ''، ليخفت أثرها رويدًا، ليذكر ''الشربيني'' إن الكل رحل منها، وظهرت بعض الخلافات بين الأدباء، والتي كانت تختفي في حضرة الأستاذ، ليذكر ''الشربيني'' كلمة قالها أحد المترددين على الجلسات ''خلاص الراجل مات ومش هنحضر أرواح''.
متحف ''محفوظ'' .. حلم ينتظر التحقيق
يذكر ''الشربيني'' إن وزير الثقافة الأسبق ''فاروق حسني'' أنشأ لجنة عقب وفاة ''محفوظ'' لإنشاء متحف له في منطقة وكالة أبو الذهب بجوار الأزهر، لكن لا خطوات للتنفيذ بعدها، ليوجه الفنان التشكيلي الدعوة للرئيس ''عبد الفتاح السيسي'' بإعادة النظر في تدشين المتحف، ليذكر أن كل بلدة تحتفي بمبدعيها، و كذلك حق للأجيال القادمة.
ومن تراث الأديب، يحمل ''الشربيني'' حوالي خمسة وعشرين ساعة فيديو مسجلة لجلسات ''نجيب'' الأخيرة مع أصدقائه، لم ترى النور حتى الآن، عرضت قناة الجزيرة شرائها لكنه رفض، ليبدي استعدادًا لمنحها للتلفزيون المصري دون مقابل، ليذكر إنها كنز وتراث من حق الجيل الجديد الاطلاع عليها.
عاطف الطيب.. ''نجيب محفوظ السينما'' الذي صنع من معاناته إبداعاً لا يتكرر