كتبت-رنا الجميعي:
كان يوم عصيب لكليهما، الوقت مجهول، الرعب يقبع في الأكمنة، الدماء تسيل ولا تتوقف، الغاز المسيل والرصاص الحي أصبحا جزء أصيل من دورة يوم طال، سُمي بفض اعتصام رابعة، ويصيرا المُعتصمين الاثنين جزءً من المشهد الوسيع، بُهتت أعينهما، أصابهما ما أصاب البقية، حتى ينتهي اليوم الطويل بممر آمن، قيدت الفتاة إليه، يدفعه ضابط بزي أسود يحمل سلاحًا، أما هو فقرر صنع ممره الآمن وحده.
قررت أن تبيت ''أسماء شحاتة'' ليلة الأربعاء بميدان رابعة، تلك الليلة التي كانت صبيحتها فض الاعتصام، بجانب طيبة مول حيث ركنت سيارتها أقامت الليل مع رفيقتها ''زهراء''، لم يكن بمخيلة ''أسماء'' أنها ستصبح على صوت الدمار، في الفجر ترامى لمسامعها بعض الحديث عن بداية هجوم، إلا أنها ذهبت لتتأكد فلم تجد شيئًا، حتى جاءها الخبر اليقين، مع التقاط أذنيها صوت قرع على أعمدة الإنارة، وهي الإشارة التي تعني التحذير للمعتصمين.
''جثث على السلم''
تسارعت وتيرة المشهد، قنابل غاز تنهال على الميدان، طلقات نارية بعدها تمتلأ بها الأجواء، لتصيب من تصيب، وتُفقد أرواحًا، تهرول مجموعة للحاق بتأمين الميدان، وأخرى تتدارك الموقف بحمل دلاء تمتلأ حجارة للدفاع عن أنفسهم، أما ''أسماء'' فالكاميرا خاصتها جعلتها ضمن موثقي الحدث، لتسرع الخطى تجاه مسجد رابعة، وبخاصة المركز الإعلامي، حيث بدأت الجثامين تتراص بجانب بعضها البعض، حتى اُستخدم مصلى السيدات لوضع مصابين وجثث تزيد عن استيعاب المكان ''الجثث ملأت المكان، حتى على السلم''.
طيلة اليوم لم يتوقف الضرب القادم من السماء وأسطح العمارات، واستهداف الميدان بأكمله حتى المستشفى الميداني، لم تستطع أسماء تحديد وقت استهداف المستشفى الميداني، كان الوقت حينها مُفرغًا من الأهمية، في يوم طال عن حده.
فرغ شحن كاميرا ''أسماء''، لتذهب إلى المركز الإعلامي لجلب الشاحن، حاولت فتح باب المركز، وثقل عليها حمل الباب لكثرة الجثامين التي تقبع ورائه، على أطراف أصابعها مشت بين الجثامين، تعود إلى مصلى السيدات، الممتلئ بالنساء والأطفال والشيوخ، منقطعة كهربائه ويملأ أجوائه رائحة الغاز، يتسنى لسمعها أصوات التكبير، والجو يحوي هدوءً خلا من صوت الرصاص، هدنة قليلة حسبها الناس توقف مستمر، دقائق معدودة تتنهد فيها الأنفاس، وتعود وتيرة الحرب مجددًا.
الممر ''الآمن''
بين توثيقها بالصور للحدث الرهيب، جريها للاطمئنان على رفيقتها، ورؤيتها لجثامين تعرفهم ويعرفونها، كان يومها، نهارُها الذي طال حتى قدرها لإصابة رصاصة بجنبها، وفشل أخرى في اختراق ظهرها، حتى أتى نهاية اليوم الثقيل، لم تستوعب ''أسماء'' أن الميدان وقع، والاعتصام قد فض، حتى شاهدت شبابًا يخرجون من المركز الإعلامي في صف متراصين يحملون شهداء ومصابين.
تستنكر ''أسماء'' عن تسمية الممر ''الآمن'' ''كان فيه ظابط ماسك سلاح''، وظابط آخر بنظرة تشي بالسخرية يتبعهم بعينيه، كما وصفت الفتاة، لم تجد بدًا من الانصياع للصف المتوالي للفتيات، وعبرت من خلاله إلى الخارج، بينما أطلق الرصاص على صفي الشباب والبنات، وبإشارة من يد أحد الضباط توقف الضرب ثانية.
تذكر ''أسماء'' أن المجموعة التي تبعت لها، لم تشهد اعتقالات أو إهانات، عدا موقف الضرب، ليتجمعوا وراء مسجد رابعة وتحمل الأخبار لهم بحرق جثث الشهداء والمستشفى الميداني بأكمله.
لم يكن يوم ''أحمد أسامة''، المعتصم بميدان رابعة، بأفضل حال من يوم ''أسماء''، ووصف مشابه، صوت الرصاص كان منبهه الخاص للاستيقاظ، بين يديه حمل أرواحًا، بعضها عافر للحياة وأخرى صعدت إلى بارئها.
بين المشفى الميداني والمنصة، كان مقره، حتى أصيب برصاص عند المنصة، تحوّل إلى مصاب يحمله آخرون، وبالمستشفى الميداني قام أحد الأطباء بالإسعافات الأولية له، ليقوم مرة أخرى للمساعدة.
خطر محيط
بنهاية اليوم، حلّقت طائرات تدعو المواطنين الشرفاء إلى الخروج من الميدان، ورسالة مسجلة تحمل الصيغة نفسها بمدرعة تطلق نارًا على المارة، كما ذكر ''أحمد''، وجماعات تخرج رآها الشاب العشريني من مخبأه رافعي أيديهم فوق رؤوسهم، في مشهد يصفه الشاب بأنه ''مذلة''، حيرة امتلأت بها نفسه، هل يخرج ويعرض نفسه للقتل والذل معًا، أم يبتكر طريقة أخرى للفرار يُمكن أن تلحقه بالقتلى أيضًا لكنها تخلو من الإهانات، هكذا فكر.
ينتهي ''أحمد'' إلى الفرار من خلال منفذ بالسور الخلفة لمسجد رابعة ضُرب بالرصاص، ويُصبح حيال الهروب برتم بطئ من خلال الفتحة، بينما ينطلق الرصاص بحركة دائرية، حيث يجر نفسه المحملة بإصابتها، فيما آلة القتل تدير ظهرها له، ويثبت ساكنًا على الأرض حينما تتذكره، وهكذا، إلى أن اجتاز ذلك الخطر، وأصبح خلفه.