كتبت- ندى سامي:
قلوب عرفت الموت وألفتها مشاهد الوداع وآذان اعتادت على العويل والصراخ، حياة آخرى يعيشها جيران ''مشرحة زينهم'' شارع ضيق مكتظ بالعمائر السكنية، ومقهى أغلب زوارها الذين تختلف وجوههم وتتشابه آلامهم من زوار المشرحة، وعربه صغيرة لبيع ''الشندوتشات'' على الجهة المقابلة للباب الرئيسى للمشرحة.
حياه بنكهة الموت يعيشها سكان زينهم يوميًا، حوادث جامة شاهدوها وشاركو بها، ولكن إذا جاء على مسامعهم 14 أغسطس تذكرو أبشع المشاهد التى عايشوها خلال جيرتهم للمشرحة، أيام متواصلة من العمل فمنهم من ساعد في تكفين الجثث ومنهم من قام بوضع الثلج على الموتى بينما اكتفت أحداهم بأن تكون حلقة الوصل بين المتبرعين وأهالى الضحايا.
''عم محمود''.. حانوتى تحت الطلب
قضى أكثر من ثلاثون عام بين الأموات يعمل كفتى صغير داخل المشرحة إلى أن أصبح خبير بكافة شئون الموت والموتى من أكفان وغسل وخشب لحمل الموتى وعربات لنقلهم، ''عم محمود'' الذى عاد إلى عمله داخل المشرحة ليوم واحد بعد انقطاعه لأربعة سنوات.
نزل من منزله بعد آذان الظهر لتصطدم أعينه بمنظر الجثث الملقاه على الأرصفة وعلى الأرض فسرعان ما شمر ساعديه ووجد نفسه داخل المشرحة يقوم بتغسيل الجثث وتكفينها ''أول مرة أغسل 35 جثة في يوم واحد'' جلاله الموت لم ترهبه بل رهبه منظر الجثث المشوهة والمبتور منها أطرافها.
بشاعة المنظر جعلت الرجل الخمسيني يتذكر جيدًا مشاهدته لـ 150 جثه متفحمه على حد قوله، ساعات من العمل المتواصل على حد ثقلهم شعر وكأن الوقت لا يمر أراد لو ينتهي ذلك المشهد، مضيفًا أن عدد كبير من الجثث التى قام بتغسيلها في ذلك الوقت تعود لشباب في العشرين من عمرهم.
بعد مرور عام على فض اعتصامي رابعة والنهضة، يجلس ''عم محمود'' على كرسي متهالك وأمامه صندوق خشبي موضوع عليه لافته كبيرة مكتوب عليها '' ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا'' وأسفل الأيه القرآنيه ''الشهداء'' لدفن الموتى.
ذلك الصندوق كان فكرة مشروعه الجديد الذى جال بخاطره بعد فض الاعتصام فقرر أن يبيع أغراض الغسل، ويوفر سيارات لنقل الموتى وأخشاب لحملهم لكل من يريد، وتوفير ذلك بالمجان لغير لقادرين، ''سمتها الشهداء علشان اللى ماتوا واللي لسه بيموتو كلهم شهداء''.
''مسعود''.. الفض الأكثر بشاعة
رائحة الموت تزكم الأنوف ودماء تلطخ الأرض، عربات إسعاف وأخرى ملاكي تضع الجثث على الأرصفة وتذهب لتأتى عربات أخرى، هكذا كان يتابع ''حسن مسعود'' المشهد من شرفة منزله بعد أن غلق محال الموبليا الذى يمتلكه بمجرد وصول الجثث إلى مشرحة زينهم .
''اتعودنا على منظر الجثث بس مشفناش بشاعة كده'' بامتعاض يتذكر الرجل الخمسيني الذى يقتن في منطقة زينهم بالتحديد خلف المشرحة منذ عشرون عام حوادث كثيرة وجثث عدة وصوت عويل وصراخ بات مألوف بالنسبة لسكان تلك المنطقة ، ''بس اليومين دول المشرحة زوارها كتير''.
يقول ''مسعود'' إن فص اعتصامي رابعة والنهضة كان أكثر الحوادث بشاعة تليها غرق عبارة السلام الذى راح ضحيتها العديد ويلهم حادث قطار الصعيد واستقبلت فيه المشرحة مئات الجثث، ويشير صاحب محال الموبليا أن عدد من سكان المنطقة قدمو شكوى ليتم نقل المشرحة في منطقة بعيدة خالية من السكان ولكن بلا جدوي حوادث تليها الأخرى ويبقي الوضع كما هو.
''علاء'' أهالي زينهم على قدم وساق
يجلس''عم علاء مصطفى'' أمام منزله في محاولة لتنسم الهواء بعد انقطاع التيار الكهربي في الشارع المجاور للمشرحة بعد عام كامل من فض اعتصامى رابعة والهضة يتذكر المشهد كاملأ الجثث والدماء'' كأن الموت بالمجان'' والرائحة الكريهة التى جعلته يغادر منزله لأيام بعد الفض.
عمل مع غيره من سكان المنطقة في جمع قطع الثلج ووضعها على الجثث ''في جثث تعفنت'' المرة الأولى التى شارك فيها الرجل الستيني في مساعدة أهالى الضحايا عايش جوار المشرحة منذ ميلاده وحتى أن أصبح على المعاش، لم تطئ أرجله المشرحة إلا مرة واحدة ذهب ليستلم جثة أحد أقاربة الذى توفى في حادث.
وأشار ''عم علاء'' أن سكان المنطقة الكل على وتيرة واحدة أحدهم يحضر الثلج وآخر يحمل الجثث ويضعها على الرصيف وآخر يشعل البخور شباب وكبار الكل متكاتف للتغلب على تلك الأزمة التى وضعتهم فيها الظروف ''حتى لو مكنتش بأيدهم بس ده موت، والموت ليه هيبته''.
قام ''عم علاء'' بإشعال البجور في منزل ووضعه في الشارع ولكن لم تنجح محاولاته في التغلب على الرائحه التى دمت لأيام عده، بينما قام الحاج ''عبد الحكم'' بإحضر عربة نقل تحمل رمل ووضعها على الأرض وقام شباب زينهم بوضع الجثث على الرمال.
''أم مينا'' حلقة الوصل بين الأهالى
تقتن في منطقة ''زينهم '' من سنوات طويلة قررت أن تفتتح محال بقالة ليساعدها على ظروف المعيشة، اشترت البضائع واعدت المحال وقامت بتوضيبه، وفي يومها الأول بعد أن فتحت أبواب دكانها الصغير كانت المشرحة التى لا تبعد عنها بسوى خطوات تستقبل أولى الجثث بعد فض اعتصامى رابعة والنهضة.
''شفت جثث بعدد شعر راسي بس المرة دي كانوا بالمئات'' وقفت تترقب المشهد من بعيد لم تكن تتوقع تلك الأعداد الكبيرة التى وصلت إلى المشرحة، لقربها من مقر المشرحة جعل أهالى المنطقة يشترون الأكفان ويضعوها في دكانها الصغير فإذا رأت أحد يحتاج لكفن تعطيه له فكانت حلقة وصال بين أهلى المنطقة المتبرعين وأهالى الضحايا.