كتبت-دعاء الفولي:
لأحداث فض ميداني رابعة العدوية والنهضة شهود، لا تفوتهم التفاصيل، لا يعتريهم تردد في نقل ما يجري، غير أن ذلك لا يأتي بخير دائمًا، ضغطة زر على كاميرا يحملها أحدهم قد تغير الكثير بحياته، يُعاقَب عليها في نفس الموقف، أو يظل أثر ما التقط عالقًا بنفسه للأبد، لا سيما إذا كان المصابون والموتى أبطال المكان، والمصورون الصحفيون بين ذلك كله يؤدون العمل، يحاولون نقل ما رأوه في تلك الزاوية من المشهد العام، مع الذكرى الأولى للفض تبقى المشاهد حاضرة في أذهانهم والصور، لازال عهدهم مع الكاميرا باق؛ أن التصوير فرض عين.
إصابة في القدم
بحكم عمله كمصور بجريدة ''المصري اليوم''ـ كان علاء القمحاوي يتردد يوميا على اعتصام رابعة، مختلطًا بالمعتصمين، ليلة الفض كان خارج الاعتصام إلا أنه علم به صباحًا فتوجه للمكان في السابعة، من الممر الآمن دلف جهة المنصة، كان الوضع مستتبًا، حتى بدأ الضرب بعدها بوقت قليل ''الكاميرا جه فيها خرطوش''، أول ما يذكره المُصور ''لودر'' يتبع الشرطة يدفع أمامه متعلقات الاعتصام، لم تكن النيران قد وصلت للمنصة بعد ''كان عندها ستات وأطفال والمنصة وشغال عليها هتافات''.
''انتقام''، هو ما رآه القمحاوي في أسلوب الشرطة حال الفض ''شفت سلاح آلي واحد في جهة الاعتصام.. لكن نسبة العنف من الشرطة مكانتش متناسبة معاهم''، متقدمًا الصفوف تحرك إلى شارع الطيران، حيث أحد المدرعات تفتح النار ''وقتها اللي واقفين جنبي كانوا كلهم معهمش حاجة''، بطيئًا بدأ التراجع بعد استشعار الخطر، بينما تدوي في الميكروفون مطالبات الشرطة للمعتصمين بالخروج آمنين، لم يكد يُدير ظهره للمدرعة حتى أصابته رصاصة في الفخذ الأيمن، عاد إلى المنصة متحاملًا حيث شارع يوسف عباس، غير أن الممر لم يصبح آمن ''كان فيه ضرب نار.. دخلت خيمة لقيت ناس عايزين يخرجوا''، بعد فترة أشار بيده لأحد ضباط الجيش الموجودين أعلى مبنى بجانبهم ''فضل يشاور للشرطة وبعد ما وقفوا الضرب اتحركنا كلنا.. بعدين بدأوا تاني فرجعنا.. وبعدين وقفوا واتحركنا''، ليخرج أخيرًا قُرب الرابعة عصرًا.
بعدما خرج من المكان انتابته حالة غضب لم تنتهِ حتى الآن، لا يتعلق الأمر فقط بمن رأى جثثهم ذلك اليوم، بل بتعاطي الإعلام مع الوضع ''والناس اللي قررت تودي وشها الناحية التانية.. مش مستوعب إنه ممكن مجتمع كامل يغمض عينيه عن مجزرة زي كدة''.
داخل مسجد الإيمان
كفيلم يعتمد على مؤثرات الصوت والحركة كان الاعتصام، كما رآه أحمد جمعة مُصور الوكالة الصينية، بعد دخوله إياه ليلًا قبل بدء الفض ثم عودته مع الصباح الباكر، وكانت حُمى الضرب قد زادت، أصوات ''سرينة'' الشرطة لا تتوقف، أنابيب البوتاجاز الموجودة بالاعتصام كانت تنفجر مُخلفة وراءها حرائق، الجثث مُلقاه على الأرض، دخان أسود يتصاعد في السماء نتيجة حرق المعتصمين إطارات السيارات لحجب الرؤية على الشرطة، ''دة مش حقيقي'' ظل المصور يُرددها لنفسه كلما توغل للداخل، حتى تلك المشاهد لم يكن الأمر قد استوحش بعد ''حسيت إن آداء الشرطة هيبقى أكثر عنفًا فاتحركت من المكان بعد ما صورت''، ليغادر الاعتصام في العاشرة والنصف صباحًا.
على الإنترنت تفاقمت الأحداث، صديق لجمعة تابع لجماعة الإخوان المسلمين حكى عن جثث بمسجد الإيمان ''كنت معتقد إن فيه تهويل سواء في عدد الجثث أو في فكرة المسجد اتحرق''، لذا على سبيل التأكد ذهب في اليوم الثاني من الفض إلى الاعتصام في السابعة صباحًا ''بمجرد ما دخلت فضلت واقف خمس دقايق تقريبًا مبتحركش''، كانت تلك المرة الأولى التي لا يستطيع فيها رفع الكاميرا بشكل تلقائي ليصور، عندما انتهت الصدمة بدأ العمل ''الكاميرا مكنتش جايبة في كادر واحد الجثث كلها من كتر العدد''، بعد التصوير قرر عد الجثث ليعلم عدد الضحايا بالتقريب''350 جثة كانوا في المسجد''، الأهالي توافدوا على المكان ليتعرّفوا على الأبناء، كلمة ''مجهول'' كُتبت على ملابس بعض الجثث، شخص كانت وظيفته كتابة أسماء وعناوين الموتى، كلها مشاهد جمعها مسجد الإيمان.
في الأماكن التي تحرك فيها جمعة ''مشوفتش سلاح''، في نفس الوقت يعلم أن أكثر من ضابط قد لقوا حتفهم، الموقف الثاني الذي لا ينساه، عندما طلب منه أحدهم ماء ''كان نايم على الأرض تعبان وقاللي إنه عطشان.. مكنتش عارف أعمل له حاجة.. بس لقيت ستات بيوزعوا ميه فقولتلهم.. كأنه كان بيطلب حاجة أخيرة قبل ما يموت''، تفاصيل اليوم لا تنتهي، بعد عام لا يقول إلا ''ما تمناش إننا كمصورين نصور حاجة زي كدة تاني أبدًا''.
تحت وطأة التهديد
من التلفاز علمت ''إيمان هلال''، مصورة صحيفة ''المصري اليوم'' بالفض، تحركت من مسكنها بالهرم عقب السادسة صباحًا لتصل الاعتصام، عمارة تحت الإنشاء قريبًا من شارع يوسف عباس قررت أن تدلف إليها لتصور من السطح، بينما تصعد السُلم قابلت أحدهم ممسكًا بسكين ''شافني ماسكة كاميرا انفعل عليا''، عدد ضخم اجتمع حولها للاستحواذ على الكاميرا ''حاولت أفهمهم إني صورت جثث ناس ومصابين ومفيش فايدة''، حتى أنقذتها إحدى الفتيات المتواجدات هناك لكن دون شريحة ذاكرة الكاميرا.
الصور التي لم تخرج بها هلال يومها لا تذهب عن الخيال، تلك البشاعة صورتها هي من قبل بأحداث المنصة، لكن الفض حمل مع الجثث تعنت من الشرطة كذلك في بعض المواقف ''اتمنعت من الدخول في الأول من شارع النصر وضابط قال لي أحسن لك تمشي من هنا.. وفيه أكتر من مصور اتمنعوا من الدخول غير اللي اتقبض عليهم زي زميلنا شوكان''.
أكثر ما تذكره عن اليوم هو الدماء التي خضبت ظهر ملابسها ''لدرجة إني لما روحت الجرنال افتكروني متعورة''، ما إن رأتها في المرآة حتى أصابها الوجع ''اللي على ضهري دة كان دم إنسان.. فضلت فترة تعبانة نفسيًا وبيجيلي كوابيس''، لكونها فتاة كان الموقف في نظر الناس أكثر صعوبة عليها ''لكن أنا قررت من يوم 28 يناير 2011 إني هنقل اللي بيحصل.. وأحاول أسيطر على خوفي لأن التوثيق أهم''، ما بقى لها من الذكرى بعد عام هو أن شيئًا في نفس من شهد الفض من المصورين قد مات.
في النهضة
''بقيت أنادي على صحابي بالاسم عشان ييجوا يلحقوني من العساكر اللي نازلين ضرب فيا''، لم يكن مصطفى الشيمي، مصور موقع مصراوي، يتوقع أن دخوله اعتصام النهضة مع زملاءه ووفد من قوات الداخلية سينقلب لمشهد عنف جديد، انتظر ليلة الاعتصام قريبًا من مسكنه بالدقي حتى حانت اللحظات فتحرك ''في الأول كانت الشرطة مرحبة بدخولنا ومفيش مشكلة وبدأت بالفعل أصور''، رؤية الدماء ليست غريبة على الشيمي، لكن الجثث المتفحمة كانت كذلك ''مشهد بينتهك كل المشاعر الإنسانية.. مكنتش فاهم يعني ايه إنسان يموت متفحم''، رفع الكاميرا وبدأ في التصوير حتى قال له ضابط جاء من الخلف ''بتعمل ايه هنا؟''، فرد أنه يعمل بالصحافة، مُخرجًا إثبات الهوية وبطاقة الانتماء للمكان؛ فلم يقتنع الشرطي.
''لقيته بيشد الأجزاء عليا ونزلت على ركبي وادى إشارة للعساكر فاتلموا عليا''، لم يبقى للمصور شيئًا يملكه عقب الضرب، على حد قوله ''حتى حزام البنطلون أخدوه''، في تلك الأثناء كانت الكاميرا قد تكسّرت بفعل الضابط عندما مر وفد زملاءه بالقرب منه ''أما شافوني كانت ردودهم مختلفة، بعضهم جم اتكلموا مع الضابط وبعضهم صوّرني فيديو عشان يوثق الحدث''.
عشر دقائق أو أكثر من الضرب انتهت بأن ذهب المصور العشريني إلى رتبة أعلى ''سألني انت تبع إيه وقولتله.. فالظابط لما لقاني بقول كدة قدام قائده.. قاللي أنا مخدتش بالي إنك صحافة''، خرج من اليوم بجروح جسدية عقب ساعات قليلة من بدء الحدث، ونفسية مما رآه من ''وحشية متعمدة'' ضده وضد الأغلبية في الاعتصام، بعد العام يحاول الحصول على حقه في معاقبة من اعتدوا عليه ''قدمت بلاغ عند النائب العام في وزير الداخلية لكن حتى الآن مفيش حاجة حصلت.. بس هفضل ورا حقي''.