كتبت - ندى سامي:
أيام وشهور وربما سنوات باعدت بين أب وولده، وعائل وأسرته، ساعات طويلة من البحث المستمر كشوفات وأسماء، وثلاجات لحفظ الموتى، وأسوار السجون العالية ربما تلك كانت محطات البحث التي طرقها ذوي من فقدوا في فض اعتصامي رابعة والنهضة.
منهم من حالفه الحظ وعثر على ولده جثة هامدة في أحد ثلاجات الموتى، أو اسم ضمن المئات من المعتقلين، ومنهم لازال بعد عام لديه أمل في العثور على فلذة كبده حيًا كان أو ميتًا، وآخر زجت به الأقدار داخل السجون فى رحلة بحثه عن المفقودين.
''صلاح'' .. دفن جثة على أمل أن تكون لابنه
جثث ملقاه على الأرض ورائحة الدم تزكم الأنوف، وأم ثكلى تودع وليدها بالحضن الأخير، وأب يحاول أن ينزع الغطاء من على جثث الموتى في محاولة بائسة للتعرف على ابنه، من داخل مشرحة زينهم لم يكن ذلك المشهد هو الأول الذي يراه ''صلاح ماهر قبيل'' فبعد فض اعتصام النهضة بساعات قلائل وبعد أن فشلت مسعاه لعودة وليده بدأ رحلة البحث عنه.
شعور بداخله جعله يدرك أن وليده توفى ولكن رفض أن يستسلم لذلك الشعور الموجع وبدأ يبحث عنه في الأقسام والمستشفيات، وأخيرًا قادته قدميه لمشرحة ''زينهم''، ولكن لم تشأ الأقدار أن يعرف طريق لابنه، أسابيع طويلة ظل يعاود البحث عن الفتى العشرينى في نفس الأماكن.
بذهن شارد عاود النزول إلى عمله، ليتلقى اتصال هاتفي من صديق محمد يخبره أنه عثر على جثة ابنه في المشرحة، شعور قاسي بين الرضا بالعثور على ابنه والحزن على فراقه للأبد، فأسرع إلى المشرحة متمنيًا بأن تكون جثة ولده سليمة لم يطلها ضرر ''كنت بقول يا رب يكون مات من غير ما يتألم''.
لفافة بيضاء وضعت على أحد أرجلة بإحكام مكتوب عليها ''محمد قابيل'' هكذا تعرف على ولده الذى لم تتبين ملامحه، شعور جال بخاطره للحظات أنه يمكن أن تكون تلك الجثة ليست جثتة ولده ولكنه سرعان ما طرد ذلك الهاجس ودفن الجثة بمقابر العائلة '' لو مكنش ابني اهو اكرام الميت دفنه''.
عام من البحث.. ولسة الأمل موجود
بمجرد أن وقعت أعين ''تامر الشحات'' على شاشة التلفاز وشاهد عمليات فض الاعتصام، خفق قلبة وسارع إلى هاتفة ليتصل بأخيه الذى قرر أن يبات ليلته داخل اعتصام رابعة العدوية، ورد عليه أخيه وأخبره أن بخير ولكن لا يعرف طريق آمن للعودة إلى المنزل، لم يهدأ وشعر أن ربما لحظات يمكن أن تبعد بينه وبين أخيه الذى يكبره بعامين.
في تمام العاشرة صباحًا حاول أن يتصل بـ ''محمد'' ولكن هاتفه مغلق مرات عدة ويعاوده نفس الرد ''الهاتف المطلوب مغلق أو غير متاح''، اتصل بصديقه الذي صحبه إلى الاعتصام ليلة الفض ليلعبا كرة القدم، ولكنه أخبره أنه تركه ليتواصل مع أحد المصابين إلى المستشفى الميداني، ولكنه لم يعد ثانية فذهب ليبحث عنه في كل الأرجاء ولكن لم يجده.
شت عقل الفتى الثلاثيني ونزل يبحث عن أخيه في كل مكان وكانت البداية في استاد القاهرة حيث علم أن تم القبض على عدد كبير ممن كانوا في الاعتصام وذهب إلى هناك ورأى حشود من الناس جاءوا ليسألوا على ذويهم فارتطمت عيناه لاهفًا بالأناس المكبلين ومتراصين على الأرض أملًا أن تقع عيناه على أخيه، ولكن باءت محاولته الأولى بالفشل.
''خفت أروح لأمي من غير أخويا لتموت فيها'' فبات ''تامر'' ليلته يبحث في كل مكان عن أخيه في المشرحة والمستشفيات وأقسام الشرطة، ولكن بلا جدوى أيام طويلة وشهور بائسة قضاها يبحث عن أخيه، فقدم بلاغ للنائب العام على أمل أن يتحرك أحد المسئولين ليبحث عن المفقودين، ففي رحلته بحثه سمع حكايات وقابل أناس منهم من فقد أبيه، ومن فقدت زوجها وولدها.
بعد عام كامل من فض الاعتصام لازال الأمل يداعب ''الشحات'' ليصل إلى مكان أخيه يعرف ، خلف أى زنزانة قهر أو أين دفنت جثته ليزوره بباقه ورد ويتلو على قبره القرآن ''لو كان مات من سنة فاتت كان زمان ناري بردت شوية''.
''الحاج أحمد'' أخذ عزاء ولده.. وبعد شهرين وجده معتقل
نصب صوان العزاء وتوشحت السيدات بالسواد قرآن يتلى وقلوب تدمع من ألم الفراق، جثة مفقودة وعزاء في صاحبها.. هكذا قرر ''الحاج أحمد'' أن يأخذ عزاء ولده بعد أيام مستمرة من البحث عنه بعد فض اعتصام رابعة العدوية.
مستشفيات وأقسام شرطة ومشرحة بحث عن ولده في تلك الأماكن، وتابع مشاهد الفض عبر قنوات التليفزيون لعل تعثر عيناه على ولده ولكن فشلت محاولاته، فبحث عن ولده في السجون لعله يجد اسمه ضمن كشوفات المعتقلين، يقين ما بداخله أخبره أن ولده استشهد.
ما كان بيده إلا أن ينصب صوان العزاء ويستقبل من جاء لتعزيته بجلد الأب المقهور على فقد ولده وحرمانه من وداع ولده الوداع الأخير، ثلاث ليال وانفض الجمع من حوله شهر والثاني يعيش الرجل الخمسيني يترحم على ولده ويتبع اسمه بـ ''الله يرحمة''.
بعد شهران اتصل أحد أصدقاء ''محمد'' وأخبر والده أنه لازال حي وأنه وراء أسوار سجن العقرب، في البداية لم يصدق إلا أن رآى ولده بعينه وضمه داخل أحضانه وبفرحة تكسوها الدموع المنهمرة أخذ يخبر الجميع أن ابنه حي وأخذ يوزع المشروبات الغازية على أهلي منطقته إلا أن ظن البعض أن الرجل شت عقله.
''عزام'' رحلة البحث عن المفقودين تودي به للسجن
استشهاد أخيه لم يكن الدافع وراء رحلته للبحث عن المفقودين.. ''عمر عزام'' الطالب بكلية الحقوق والذى تم اعتقله يوم 17/ 8 في أحداث مسجد الفتح وهو يبحث عن جثة أخيه الشهيد بعد أن أخبره البعض أنه داخل مسجد الفتح، برغم اختلافه الشديد مع أخيه ومحاولته اقناعه بعدم النزول للاعتصام، إلا أن زجت به الظروف داخل سجن وادي النطرون.
أربعة شهور قضاها ''عزام'' داخل السجن احتك مع الكثير ممن لا يعرف أهلهم طريقهم، فأخذ بياناتهم وعزم في قرارة نفسه أن يحمل لواء البحث عن المفقودين ومحاولة توصيلهم لذويهم، وبعد خروجه تواصل مع أهل ممن كانو معه في السجن، وتواصل أيضًا مع عدد من الجمعيات الحقوقية لتساعده في مسيرته .
علاقته الوطيدة مع ضباط محبسه جعلته على تواصل معهم بعد خروجه، وفي اتصال هاتفي آخبره أحدهم أنه موضوع تحت المراقبة، وبعد أيام قليلة اعتقل ''عزام'' من داخل منزله في يوم 25/4 ليقضى شهران داخل معسكر سلام بالاسماعيلية، ومن داخل محبسه يعرف الفتى العشريني أنه تم فصله من الجامعة في الترم الأخير له جراء دخوله المعتقل للمرة الثانية.