كتبت-إشراق أحمد:
تندلع الحرب، قصف متوالي، الأرض تهتز تحت أهل غزة، البعض يفر بالتجاهل، ويلوذ البعض الآخر بالصمت، بينما يهرول أخرون؛ التضامن عهدهم أينما بغى الظالم، أيديهم تسبق بالفعل كلمات المؤازرة، بلسان لا يتحدث لغة المضحى من أجلهم، وهوية تنتمي فقط للمبدأ ونداء الواجب؛ عزم ''مادس فرانكلين جيلبرت'' دون تردد على السفر إلى قطاع غزة، متوجهًا لمكان العمل ''مجمع الشفاء'' – أكبر مستشفى يستقبل الشهداء والجرحي-، أيام ليست الأولى له بفلسطين، لكن رسائله باتت تعرف طريقها لكل ذو قلب بصير.
غزة لا تنسى؛ لهذا كان لـلطبيب النرويجي مكان لم يحظ به كثير، بات البعض يصفه بالبطل، وأنه نموذج يحتذى به، ليس بنجوم الشاشات الذهبية والفضية لكن أهل غزة جعلوا منه نجم يسطع في صفحات التاريخ الإنساني، ما أن يُسطر اسمه حتى تتلاحق الصفحات على مواقع التواصل الاجتماعي، أضحى صورته مقرونة بعلم فلسطين وشارة النصر، بكلمات إشادة وثناء على الفعل يفاضل البعض بينه والموقف العربي المتوان تجاه الحرب على غزة.
الحدود تراب
عزم''جيلبرت'' لم ينقطع منذ إعلان قوات الاحتلال الإسرائيلي الحرب على غزة عام 2008، فكان شاهد عليها، وتكرارها في 2012، رغم عمره الستيني غير أن عبور الحدود إلى غزة بمجرد إنطلاق القذائف مستهدفة أهلها، يصبح في ثوان همه الشاغل، مخلفًا وراءه عمل وحياة، على أقل تقدير في نظر البعض لا تطالبه بأكثر من التضامن ملتزمًا موطنه، لكن ذلك ما كان غاية رئيس طب الطواريء، فلا فرق بين مرضى النرويج، والفلسطينيين شيء بل جرحى الحرب أولى في ذلك التوقيت.
الإنسانية أحق أن تتبع
رغم الحملات التي يتعرض لها الطبيب النرويجي لموقفه التضامني مع غزة وآخرها شن السفير الإسرائيلي في النرويج هجوم حاد، داعيًا لمقاطعة ''جيلبرت'' غير أن ذلك ما منعه من مواصلة الحديث عن ما يحدث على أرض غزة، فلم يتردد من قبل عن تأليف كتاب بعنوان ''عيون في غزة'' يرصد كل ما شهده بحرب 2008.
''قربي من الصمود الفلسطيني منحني القوة، رغم أني أحيانًا لا أريد سوى أن أصرخ، أحتضن أحدًا بقوة، أبكي وأنا أشم وجه طفل دافئ مغطى بالدم، أريد أن أحميه في عناق طويل، لكننا لا نملك الوقت لذلك، ولا يملكونه هم'' كلمات دونها ''جيلبرت'' في 22يوليو الماضي قبل أن يعاود النرويج منذ أيام، الجمود الذي تفرضه عليه مهنته والظروف التي يعمل بها، لم تمنعه من وصف المشهد بأنه قصف وحشي ما شهد له مثيل تى بالحرب الأخيرة.
قبلة يضعها على جبين صغير فارق الحياة، ابتسامة مداعبة آخر على فراش المرض؛ صور التقطها العدسات لـ''جلبرت'' في مستشفى الشفاء تضيف له رصيد آخر، دفعت البعض للمطالبة بمنحه جائزة نوبل، بل هناك مَن أرسل له على إحدى الصفحات المنشأة باسمه ''هذا الرجل العظيم يستحق منصب الرئاسة على كل الدول العربية''.
رسائل ''جيلبرت'' ليست فقط التي يبعثها بكلماته بل مواقفه التي يتابعها الكثير بمختلف دول العالم، فتحرك نفوسهم تجاه القضية، وتعيد للبعض الأمل مع كثرة الدماء المراقة حال اليزابيث كلار، الفتاة الأمريكية التي أرسلت على أكبر صفحة باسمه– بلغ عدد متابعيها 36 ألف- ''كلما اندلع العنف فقدت إيماني بالإنسانية والبشر، لكن أنت من القليلين الذين ساعدوني لاستعادة إيماني.. أنت لست مجرد طبيب ينقذ حياة، بل شخص شجاع بذل أكثر مما يفعله الأبطال.. أتمنى أن يتخذ العديد حذوك لانقاذ هذا العالم''.
البعض يعبر عن كلماته على صفحات تحمل اسم الطبيب، لا يعبأ إن كانت ستصله أم لا، فمئات العبارات بلغات مختلفة أجنبية وعربية منها العابر بكلمات ثناء والمستفيض فكانت ''لينا شوهاير'': ''لم يكن لدى أمل حتى بدأت متابعتك، على الرغم من كلماتك المؤلمة غير أنك مازالت تثبت لي أن هناك من سيخاطر من أجل أخرين.. أن هناك مَن سيفعل أي شيء للوقوف بجانب مَن يحتاج للمساعدة''.
التضامن فعل
منذ عام 1970 والطبيب النرويجي أعلن تضامنه مع القضية الفلسطينية غير أنه لم يكتف بجمل تُلقى هنا وهناك داخل الأروقة المغلقة، فكان ضمن فريق العمل الطبي بمستشفيات الهلال الأحمر الفلسطيني في حصار بيروت 1982، ومن بعدها شهد الحروب الثلاثة الأخيرة، متنقلاً بين طرقات المستشفى، محاط باجساد تحتضر، وأخرى وافتها المنية، نزيف وأشلاء، كبار وصغار، صراخ وصمود يملأ المكان، الذي ظل ''جيلبرت'' جزء منه حتى 31 يوليو الماضي قبل أن يعاود ''النرويج'' فكان أول ما فعله عقب وصوله عقد مؤتمر صحفي يستعرض فيه الوضع بغزة.
الشجاعة موقف
لم يكن سفر ''جيلبرت'' ومعاونة الفريق الطبي بغزة رغم محدودية الإمكانيات، وكونه أول أجنبي يدخل القطاع بعد أيام قليلة من اندلاع الحرب نهاية المطاف، بل حرص خلال تواجده على توجيه الرسائل للمجتمع الدولي بكل ما أوتي من قوة، لا يأخذ اعتبار لأي شيء سوى انهار الدماء والدمار الذي يشاهده.
في 2008 يرسل عبر هاتفه إلى معارفه بالنرويج، يطالبهم بفعل شيء عقب قصف إحدى الأسواق واصفًا الوضع ''نحن نحيا في كتب التاريخ..افعلوا شيئًا''، وكان لرسالته تلك أثر في دعم اللجنة النرويجية لإغاثة فلسطين، وعقب عودته كانت مطالبته الأولى للحكومة النرويجية بالتدخل لوقف العدوان على غزة.
ولم يتوان في انتقاد السياسة الأمريكية الداعمة لقوات الاحتلال قائلاً في رسالة بتاريخ 22 يوليو الماضي ''في هذه اللحظة، تستأنف أوركسترا آلة الحرب الإسرائيلية سيمفونيتها الشنيعة.. وابل من الذخيرة التي أطلقتها قوارب قوات البحرية تسقط على الشاطئ، الـF16 ، والأباتشي، كل هذا تصنعه وتموّله الولايات المتحدة.. سيد أوباما هل لك قلب.. أدعوك لقضاء ليلة في الشفاء، ربما متنكّرًا كعامل نظافة، وأنا على يقين تام أن هذه الليلة ستغير التاريخ''.
''جيلبرت'' لم يعد مجرد طبيب بل جزء من سلسلة مَن مروا على غزة وهم ليسوا منها، ينقلون للعالم أجمع صورة تقاوم ترسانات الاحتلال الإعلامية، وغفلة الدول الشقيقة، يظلوا عاملاً مدعمًا بالفعل والقول، يتأثر بصمود أهل غزة ويرده لهم بعد تركهم ففي المطار كانت كلماته ''على أهل غزة أن يعرفوا أنهم ليسوا وحدهم، على الرغم من أننا لسنا هناك الآن لكننا معهم، فلا تستسلموا إن شعوب العالم الحر يتأملون صبركم ويستمدون من قوتكم فإن استسلمتم الشعوب من بعدكم سوف تستسلم''.