كتبت- نيرة الشريف:
أن تنفق عمرا كاملا علي الطريق بين محافظتين، لا تهدأ ولا تصل، فقط تذهب وتأتي لا أحد علي احدي ''الضفتين'' ينتظر قدومك، كما ينتظرون الركاب الذين تقلهم أنت من هذه المحافظة لتلك، لا حياة مختلفة هنا عن هناك، لا تري سوي السيارات التي تصطف في الموقف، ذلك هو المشهد الموحد الذي تراه في المكان الذي سافرت منه، وفي المكان الذي وصلت إليه، ومزيد من الوجوه المسافرة لأشخاص راغبين في التنقل للحاق بالعمل أو الأهل أو الزوجة والأولاد، هذا هو ملخص عمر الحاج عبد العزيز والحاج جلال إذا أرادا وصف عمرهم في أسطر قليلة، قضي الأول نحو خمسة وخمسين عاما من أعوام عمره السبعة وستين متنقلا علي الطرق السريعة بين المحافظات، حيث أن المهنة التي ارتضاها كسائق ميكروباص يقلّ المسافرين جعلت هذا هو النشاط الوحيد الذي يقوم به، ولا يستطيع القيام بأي أمر أخر من فرط الإنهاك وشديد الجهد الذي تتطلبه هذه المهنة، كذلك الحال معه الحاج جلال الذي قضي من سنوات عمره الثمانية والخمسين نحو ثلاثين عاما في التنقل والسفر.
يصف كلا منهم علي حد كيف بدأ الحال وإلام انتهي، يضعون تأريخا تدريجيا لتغير الصورة المجتمعية من أقصي اليسار إلي أقصي اليمين، وكل ما يرصدونه هو تلك التغيرات المادية التي أثرت علي كل شيء.
''أنا شغال بقالي 55 سنة، وأحمل رخصة درجة أولي بقالي 45 سنة.'' هكذا قال الحاج عبد العزيز بفخر عن إنه أكبر من حوله، وأكثرهم خبرة، رأي أكثر مما رأوا، وعمل أكثر مما عملوا، كان منذ سنوات لا يدري عددها يملأ سيارته بالسولار بنحو جنيهين أو ثلاثة جنيهات ''كنّا شباب، ما معناش غير نفسنا، لا متقل كتافنا حمل البيت ولا العيال، زمان كنت ساكن بقروش دلوقتي عندي 5 بنات في التعليم وعلي وش جواز، وولد في التعليم وساكن ب 750 جنيها'' تذهب وجوه وتأتي من وجوه الزملاء علي الحاج عبد العزيز ''عيال بتشتغل وعيال بتبطل، وأحنا في مكاننا اللي مانعرفش غيره.'' ورغم عمره الذي أفناه في العمل ومزيد من العمل، إلا إنه لم يتمكن من أن يشتري سيارة تكون ملكه يعمل عليها ''أنا شغال علي عربية يتامي، بيطلع لهم منها ملاليم بعد ما بيدفعوا مصاريفها وبنزينها وتصليحها وأجرتي.'' يتابع الحاج عبد العزيز كل شيء عن قرب يختفي السولار ويظهر، يغلي ثمنه، تتعنت إدارة المرور، يظهر بلطجية الطرق ويغيب رجال الداخلية، يظهر رجال الداخلية ويتكفل بعضهم بتكدير السائقين، أو ينصلح حالهم ويعاملونهم بتهذيب واحترام، في المواقف يزيد عدد السيارات.. يزيد مع الأيام التي تُزيد من عدد سنوات عمره أيضا.
''الناس طفحانة الهم'' هكذا بدأ الحاج جلال، السائق علي خط الشرقية/ القاهرة، ''دلوقتي أنا لما هقول للركاب الأجرة غليت جنيه ولا أتنين، هيعملوا أيه؟! ما هم مضطرين يسافروا عشان يشوفوا مصالحهم، أحنا شفنا أيام كتير، وشفنا ناس كتير بتيجي وتروح، ما حدش باقي في مكانه، بس اللي بييجي مابيفكرش إنه كان في حد قبله في المكان ده ومافضلش فيه، وإنه هو كمان بكرة مش هيبقي موجود، محدش بيفكر كده، لا إدارة ولا مرور ولا غيرهم، الشقا عارف طريقنا كويس، شوية فيه بنزين وشوية مفيش، شوية غالي، وشوية ماتعرفش هيحصل أيه، زي ما الهم مابيغلطش في الطريق عشان يوصل لنا.''