معايشة- أحمد الليثي:
تصوير- كريم أحمد:
بأجساد هشمتها قذائف المحتل تركوا أرضهم متجهين صوب مصر، بملامح تنضح بالألم وقلوب في غزة مع رفاق يواجهون الموت كل لحظة، افترشوا أسرة مستشفى الزيتون التخصصي، بين ثلاث شقيقات، أطفال يقاومن الصهاينة من سرير المرض ويؤكدون ''على العهد.. نفدي فلسطين بأرواحنا''، ومسنة واجهت العدو في الانتفاضة قبل ثلاثة عقود فنجت من رصاصة طائشة، وأصابها القصف قبل أيام، وعجوز يتمنى أن تكون مصر سندا أخيرا لقضية أهملها الأشقاء العرب.
''كنا بين خيارين.. الموت أو الشلل'' كلمات قاسية خرجت من فم أم تتألم وهي تنظر قبل ''منة الله إيهاب'' وليدتها التي لم تكمل عامها الخامس بعد، الندبات تغطي وجهها البريء والوصلات الطبية تركت أثار الوخزات في كل أنحاء جسدها، تسرح عيناها في جنبات الغرفة 306 بذهول، ''منة خبرة في القصف'' يقول جدها بوجه باسم وهو يحكي عن إصابتها وهي بنت 37 يوما، خلال قصف سابق، وقتها خُلع كتفها الأيمن، قبل أن تصيبها القذائف هذه المرة في كلتا قدميها الصغيرتين، تقسم الجبيرة جسدها نصفين، تتوجع غير أن جمالها يهيمن عليها رغم الشحوب البادي على وجنتيها، 26 إصابة تعرض لها مخيم الصغيرات كان لمنزل الحاج فتحي -جد منة الله- 9 أفراد دفعة واحدة.
أجواء الحرب ليست جديدة على عائلة قدمت شهداء للقضية، لذا لم يكن غريبا أن يرتسم محيا الشيخ الستيني بالابتسامة وهو يرافق ثلاثة من حفيداته إلى القاهرة -منة وأماني وإسراء- في رحلة علاج ''اليهود ما عندهم سبت وحد.. ما عندهم صغير وكبير.. وإحنا نذرنا نفسنا لنصر الله وفلسطين''.
في تمام الثانية بعد منتصف الليل يحين موعد ذهاب الشيخ فتحي إلى مسجد المخيم كي يبدأ في الاستعداد لصلاة الفجر، فيما كان القصف سببا في انقطاع عادته اليومية، لم تكن كلمات الرجل الستيني محض مبالغة في تقديم النفس فداء للوطن والقضية، فرغم إصابة ''أماني إيهاب'' ذات الثمانية عشر ربيعا في قدمها اليمنى، لم تخفت بهجتها وتلقيها خبر الإصابة بسرور ''هيجي اليوم وننتصر''، تروي تفاصيل الهجمة الشرسة وقت أن بدأت الإعداد لوجبة السحور، فيما هاجمها ضوء أحمر يعمي الأبصار، صرخت وهي ترى صاروخ آخر يقع في أرض فضاء تجاور منزلها فارتج المكان، أصيبت أماني وأختيها ففرقتهما المستشفيات في دروب غزة ''قلت لهم عايزة اشوف أخوتي.. مش لازم تفرقنا الحرب''.
لم تستسلم أماني لدور المريضة فيما اتخذت الشقيقة الكبرى في الحنو على صغيراتها؛ لذا تناغش ''إسراء'' التي ترقد على يمينها -14 سنة- فتعيد إليها بسمتها الخجلة رغم الآلام، تحكي أماني لصغيرتها عن إعجابها بمصر وأهلها رغم الظروف غير الملائمة التي حضروا فيها، لا تحلم الصبية وشقيقاتها سوى بعالم بسيط يخلو من حصار دائم وقذائف لا تنتهي ودماء لا تتوقف، غير أنها تردد وجدها الكلمات بعزم لا يهتز ''نفدي فلسطين بروحنا ودمنا.. أرضنا مقدسة ومش راح نفوتها للصهاينة يعربدوا فيها''.
خلال الانتفاضة الأولى في ثمانينيات القرن الماضي كانت ''زينب سالم'' تقف بكل جسارة في وجه المحتل، فيما نالتها رصاصة غدر طائشة، غير أنها نجت، فيما تمر 27 عاما لتقع -المرأة التي دخلت عقدها السادس قبل عام واحد- فريسة القصف في هذه المرة.
داخل الغرفة 302 تحاول أن تعدل من جلستها وهي تتأوه، بملامح تتجلى فيها المعانة بعد جراجة لتركيب مسامير بلاتينية في قدمها اليمنى، لم تفعل ''زينب'' للأعداء شيئا سوى أنها دعت بنصرة فلسطين قبل نومها، فسقط فوقها سقف المنزل ''الصهاينة بيصوروا إننا مجرمين''، تستنكر إدعاءاتهم وهو تقول بحلق مختنق ''هلا نحارب وإحنا نيام.. هو الأطفال والكهل يقصفون المنازل.. الله يبتليهم وينصرنا''.
بوجه شاحب وجسد مستسلم يرقد الحاج محمد حماد داخل الغرفة 304 بمستشفى الزيتون التخصصي، قدمان مثبتتان بفعل جراحة تعرض لها في غزة وعلاج يستكمله في القاهرة، كسر في القدم اليمنى وشروخ في اليسرى، يحاول الرجل الخمسيني استجماع قواه لسرد ما جرى له قبيل القصف، كان السحور على الأبواب، لم تسعفه ذاكرته إلا لسماع دوي انفجار تبعها مجموعة تفاصيل أشبه بالهلاوس؛ من شباب يحملونه وأطباء يجرون داخل أروقة مستشفى ناصر بخان يونس، وتمتمات بالشهادة ''الحمد لله.. دي أصابة خفيفة'' يقولها بلسان ثقيل جراء الألم الذي يتكبده، يدعو بقلب صادق لرفاق فقدوا أجزاء من أجسادهم تحت الركام وآخرون باتوا في عداد الشهداء.
4 ساعات قضاها ''حماد'' مع زوجته على باب المعبر، تاركا أولاده الأربعة في خان يونس لدى أقارب تهدمت منازلهم هم أيضا، تحاول الزوجة أن تطيب خاطره بعبارات تطمينية على حال غزة، غير أن وجهه يمتعض وهو يقول ''70 بيت دكوها الصهاينة في يوم واحد من غير إنذارات.. يرضي مين ده يارب.. ويقولوا عنا مجرمين''.
تؤكد الزوجة أن كل ما فات على غزة من نكبات في كفة وما جرى في القصف الأخير في كفة أخرى ''بنشوف الموت كل لحظة''. لا يفتأ حماد يردد غير مرة أن الحال مستمر طالما ''العرب ممنهمش فايدة''، غير أنه يتابع بوجه باسم ''بس البركة في مصر.. ده العشم''.