كتبت ندى سامي:
ساعات طويلة تقضيها أمام شاشة التلفاز وهى تطالع ما يحدث بألم تغشى أن يغفى جفنها ويفوتها متابعة أسماء الجرحى والقتلى، قصف على مخيم ''المعازي'' بوسط غزة وأنباء عن عدد من القتلى والجرحى، رعشة تسري بجسدها، وشلل يكاد يصيب أوصالها، فى وفي تردد مصحوب بحسرة تمسك الهاتف وتتصل بأخيها القابع هناك، وأثناء جرس الهاتف وفي ثواني معدودة يجول بخاطرها السيناريو كالتالي لا أحد يرد أو ربما يرد أحدهم ويخبرها باستشهاد أخيها أو رضيعه الذى لم يبلغ من العمر سوى ثلاث سنوات.
مشاهد متكررة تعيشها ''مريم مصطفى'' التي تقتن بجسدها في قاهرة المعز وبقلبها الذى ألمه الفراق في فلسطين، وسيلة اللقاء بينها وبين عائلتها دقائق معدودة عبر الهاتف، تسمع أمها وهى تتمتم بالدعاء على العدو وتتمنى الشهادة، وأخيها الذى يشكو لها قلة حيلته في الحصول على الأموال، وزوجته التي تخرج إلى السوق بعد أن يهدأ صوت القذف وهي لاتعلم إذا كانت ستعود إلى منزلها أم لا وبكاء صغيره المهروع من أصوات القذائف وصوت الدبابات.
فتأخذ ''سارة'' أبنة شقيقتها الهاتف وتحدثها عن لوحتها الجديدة التي باتت ليلتها ترسم فيها أوطانها بعد جلاء العدو، وتختتم ''مريم'' جولتها عند شقيقتها الصغرى ''سعاد'' فتحاول أن تهدأ روعها وتطلب منها ألا تتابع الأخبار حتى لا تصاب بالفزع، وأن جميعهم بخير، وأنهم لا يشاهدون التلفاز إما لانقطاع الكهرباء الدائم، وحتى لا يصيبهم ما يحدث بالخوف، فصوت القذف اعتادوا عليه، والمشاهدة لا تزيدهم إل ألمًا وحسرة ''بنام وناكل على صوت الدبابات''.
''مريم'' طفلة
تفاصيل كثيرة تعرفها ''مريم'' وتدركها جيدًا ولم تمح من ذاكرتها منذ طفولتها الأولى حتى الآن، لم تقتنع بكلام شقيقتها، لأنها لازالت تذكر صوت المدافع المختلط بصرخات النساء، ومشهد البيوت المهشمة، والأشلاء الممزقة، وانقطاع التيار الكهربي طوال اليوم باستثناء ساعات قلائل، كانت تقضي فيها والدتها حاجة المنزل وإعداد الطعام، وغسيل الملابس.
لم تنس قط نزوحها من منزلها إلى معسكر ''النصيرات'' بعد القذيفة التى طالته وهم خارج المنزل، بين أكوام من الطوب أخذت تبحث عن دميتها التى تصطحبها في نومها، بكت لضياع حقيبتها، فزع انتاب الصغيرة لصراخ والدتها، احتضنت أخيها الرضيع تلاعبه وتلاطفه لتهدأ من هلعه، لقطات حية نقشت في ذاكرتها ورسخت في قلبها.
الزيارة الأخيرة لغزة
علمت السيدة الخمسينية بنبأ زيارة هشام قنديل رئيس الوزراء في حكومة مرسي آنذاك، إلى قطاع غزة تضامنًا مع الشعب الفلسطيني بعد هجوم عسكري إسرائيلي، فأخبرها أخيها أن ذلك هو الوقت المناسب التي يمنك أن تدلف فيه عبر معبر رفح، دون أن تودع باقي أشقائها الأربعة، وأن تبكي في حضن والدتها، ودون أن تحصل على هدايا أقاربها وصديقاتها، رحلت مع أخيها عبر سيارته، ''كنت خايفة من صوت القذف وقعدت في الدواسة ''ساعات قلائل وتمكنت أن تنفذ عبر المعبر وتعود إلى زوجها في مصر.
ثمانية ساعات تستعيد فيها تفاصيل شهر من الإقامة في بلادها، شعور بالأسف انتابها لمغادرتها بلادها وأهلها، بكاء يصحبه دعاء وأمل في العودة، صوت القذائف والمدافع كان يسرى في جسدها الهلع والبكاء الهستيري، فكان يسخر منها الجميع من كبار وصغار، ''ابن أخويا كان بيقولي أنت مصراوية''، فاعتيادهم على أصوات المدافع وتوقعهم بدخول ملك الموت فجأة في أي لحظة، جعلهم لا يخشون الموت بل يتمنونه شهادة في سبيل الله.
فلسطينية على أرض مصرية
''بعد 54 سنة أسمي لاجئة، لا عارفة أدخل بلدي ولا حتى معايا جنسية مصرية'' بنبرة أسى قالتها ''مريم'' حامدة ربها الذى لم يرزقها أولاد، حتى لا يرون الذل التي تراه، عايشت المصرين واختلطت بها، لهجتها وملامحها تجعل البعض لا يكتشف أنها فلسطينية، حفظت عاداتهم وأمثالهم لم يرهقها في العيش على أرض مصر سوى بعدها وفراقها لأهلها والأرض التي ولدت عليها، وعدم تعاطف البعض مع القضية الفلسطينية بعلة ما تفعلة ''حماس'' كان يغضبها، ''الفلسطيني شايف المر من حماس ومن العدو كلهم سواء''.
شعورها بالبعد عن أوطانها جعلها تتقرب من أبنائه المغتربين، فعملت في المكتب الإعلامي لحركة فتح بمصر، وكانت حلقة الوصال بينهما ويد العون ترى مشاكلهم وترصدها وتحاول أن تقوم بحلها بشتى الطرق، ''الأسر كلها ايدها على قلبها وبيقولو امتى يجي الدور''، بعد نكسة 67 جاءت ''مريم'' طفلة صغيرة مع والدها الذى كان يعمل فى جيش ''أبو عمار'' وشارك في النكسة، وحرب اكتوبر، وتركها والدها، وذهب ليحارب مع الجيش في لبنان ليلقى ربه شهيدًا عام 1979، مكثت مع والدتها والتحقت بالمدرسة، ثم طالبة بكلية التربية بجامعة القاهرة، وتزوجت من رسام كاريكاتير فلسطيني، ولد في مصر وعاش فيها مع أمه المصرية.