كتبت-إشراق أحمد ودعاء الفولي:
من جدران إلى جدران، الأولى تحت سماء قصف دائم، تسكن فيها أرواح كتب عليها القدر الصمود؛ لأنها فلسطينية، تجبرها الحرب على اختيار البقاء في موطنها، أما الثانية فتقبع بها قرة عين لها، تنتظر اتصال هاتفي مطمئن، خبر يُشفي صدور أرهقها قلق لم تعرفه حينما كانوا سويًا، حتى وهم بين قبضة الاحتلال، ''الجرف الصامد''، عملية عسكرية خاضتها إسرائيل بقطاع غزة منذ أيام، فباتت فاصل حدودي متجدد بين آباء وأبناء يقتسمون الترقب والخوف كلٌ على الآخر، يأنسون بالصمود، ولسان حالهم ''في فقد الأحبة غربة''.
اطمئنان بطعم القصف
ابتسامة ودودة تستقبل بها سلسبيل محمد الفلسطينية ما يحدث حولها، الخوف يملأ قلبها بالقاهرة، غير أنه لا يمنعها التعايش مع الحرب حتى عودة الأحباب، منذ شهر سافر والديها لإنهاء بعض الإجراءات بمدينة غزة وبدأت الحرب وهم بداخلها، فلم يستطيعوا العودة حتى الآن، لـ''سلسبيل'' ثلاثة إخوة، الأكبر سنًا يعيش بدولة الإمارات، الأصغر منها تراعيهم هي في غياب الوالدين، ليست هذه المرة الأولى لبقاء الوالدين بعيدًا عن الأبناء إبان القصف بغزة، ففي الانتفاضة عام 2008 تكرر الوضع، لكن أحد الإخوة كان معهما ''إنما هالمرة أبويا وأمي لحالهم.. معهمش حدا''.
ساعتان من النوم، هما ما استطاعت ''سلسبيل'' الحصول عليه منذ يومين، تتابع أخبار موطنها أكثر من غيرها بحكم عملها كصحفية، يعتريها رعب مع كل مرة لا يرد عليها الوالدان ''بفكر إنه يكون حصلهم شيء''، خاصة أن بقية العائلة هناك، تتواصل معهما من خلال الإنترنت ''بشوفهم إذا بيبقوا أون لاين بتطمن''، أما التواصل عن طريق الهاتف فيحمل أصوات القصف ترج القلوب ''كأننا بفيلم مأساوي''، ما يُحزن الفتاة العشرينية بالإضافة للشهداء والخراب، الوقت الذي اختارته قوات الاحتلال لبدء الضرب ''العقلية الإسرائيلية سادية.. بيختاروا المواسم اللي بنبقى فيها فرحانين زي رمضان أو الأعياد''، تُخبرها والدتها بسخرية مريرة أن أصوات القذائف الإسرائيلية توقظهم ليلًا قُرب ميعاد السحور وقبيل الإفطار.
ما من حرب تمر حتى يُقطع جزء من العائلة، يبقى حيث الدم والموت، لا تندم الفتاة الفلسطينية على احتجاز والديها بمعزل عنهم ''فلسطين أرضنا وعندنا قناعة إن الموت قدر بأي مكان''، عام 2012 حيث الحرب الثالثة كان الأخ الأكبر بمفرده بقطاع غزة ''والبيت اللي كان نازل بيه اتقصف لكنه خرج سليم''، ''سلسبيل'' أيضًا نالها وجع الاحتلال، لكنه كان هيّنًا مقارنة بالوضع الحالي، إذ كانت مع أسرتها ''لما يحصل لنا حاجة واحنا سوا أفضل من كل واحد بمكان''.
مائدة كبيرة ملئت بأصناف الطعام، أطفال يلهون بالأرجاء انتظارًا لآذان المغرب، عائلة بأكملها ستفطر سويًا، حتى جاءت القذيفة على مطار ''أبو عمار''، غزة أصبحت لا تُرى سماءها لكثرة الدخان ''البيت اتعبأ برائحة الحطام.. ما حدا بقى له نفس ياكل''، وقع ذلك بينما ''سلسلبيل ''صغيرة، لكنها تذكره كأنه أمس.
الاغتراب يكسر في النفوس شيئًا، لا يمحوه تعود على الحرب، ولا يجبره إلا اللقاء، لو بيد الفتاة الفلسطينية لذهبت لهم دون تردد ''نعيش في بلدنا ونتحمل.. اللي بيولد منا مقاوم بالفطرة.. نحنا فلسطينيين حتى ولو كنا مغتربين''.
غربة عن الحرب
قبل أيام تلقى أحمد نبيل اتصال هاتفي، الشاشة تُظهر رقم عائلته بـ''غزة''، في نفسه دعى الله أن يكون الأمر خير، أيام ظل يتابع تطور الأحداث منذ بدأت قبل حلول رمضان، مناوشات معتادة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، التصعيد كان متوقع لطالب الماجستير في القاهرة، ست وعشرون عامًا قضاها في كنف إعلان الحرب بين الحين والآخر بمنطقة ''جباليا''-أكثر المناطق سخونة-، لم يفكر يومًا في ترك الأرض والقضية إلا لخدمتها، فكان بعده عنها حرب من نوع أخر.
''عايش في نار'' بصوت متلهف مرهق قال الشاب الفلسطيني الذي لم ير منذ عام ونصف أهله القاطنين في غزة ''من رمضان اللي فات.. كان نفسي أقضي معاهم رمضان ده''، لكن الاحتلال طالما قام بدوره في تنغيص حياة أصحاب الأرض ''أهلي قالوا لي خليك شوية لغاية ما الحال يهدى ويتفتح المعبر'' للخوف من ضياع عام دراسي ومن ثم رسوم إضافية.
24 ساعة يكاد لا يعرف النوم طريقه إلى عين سليل آل'' فرحات'' منذ بدء العملية الإسرائيلية ''الجرف الصامد''، أمام شاشة الكمبيوتر، متابعًا للأخبار، المتداول على ''فيسبوك''، ومستمعًا للإذاعة المحلية لغزة على الإنترنت ''مابتحركش من البيت خالص..خايف خبر يفوت علي''، هي الوسيلة التي يعوض بها صعوبة التواصل مع الأهل، فليست الغارات الإسرائيلية وحدها المشكلة، بل انقطاع الكهرباء الذي يصل لـ20 ساعة باليوم ''يادوب يشحنوا الهاتف''، لكن في الوقت ذاته محل ضغط على الشاب ''أول إمبارح الراديو المحلي كان شغال سمعت في الأخبار قصف أحد المنازل كان على مسافة 50 متر من منزلنا بسرعة اتصلت على أهلى أطمن عليهم''.
''كل لحظة بتمر صعبة'' لم يكن ذلك حال الشاب الفلسطيني الذي فاتته الحرب على غزة للمرة الأولى وهو ليس فيها، الصواريخ غدى صوت يسمعه عبر مكالمة بينه وأخته، يدب الرعب في نفس ''نبيل'' أكثر، يرهقه التفكير مع كل خبر يُعلم بقصف جديد، ''نفسي أكون معاهم'' وليس عكس ذلك يتمنى شقيق الصبية الأربعة والثلاث أخوات، فهو في الحرب غريب عكس حاله هناك ''كنا وقت الغارات نتجمع العائلة كلها في بيت واحد..ت كون الصواريخ شغالة وتلاقينا نلعب كوتشينة ونضحك''.
إنه اطمئنان في حضرة العائلة، لا يهمهم ما يحدث فالجميع معًا يشد أزر بعضهم البعض بينما هو الآن وحيدًا مع صحبة مثله، يغوص قلبه انشغالاً على أفراد أسرته، وحزنًا بسماع خبر استشهاد وإصابة أحد الجيران حال منزل آل حمد الذي تم قصفه قبل أيام.
دعاء ''يارب مصر أو أي حد يوقف الحرب'' يختلط بمشاعر يعايشها للمرة الأولى، صامد رغم كل شيء، متمنيًا العودة لحضن الوطن.
مفتي الجمهورية يدعو إلى وقف عاجل وفوري للعدوان الإسرائيلي ضد غزة