كتبت - ندى سامي:
المكان سوق "التعاون" بشارع فيصل، المهنة "تاكسي" وقوده رغيف خبز وصحن فول في السحور، وكوب شاي "في الخمسينة" ومياه باردة من السبيل الذي يكمن تحت منزله، المكون من غرفتين والذي يعيش فيه مع أولاد أعمامه الخمسة، وخمسة أخرون من أشقاء المهنة المغتربين بحثا عن لقمة العيش.
يسير محمد تحت أشعة الشمس الحارقة يحمل على كتفه وساعديه الحقائب المحملة بالفاكهة والخضروات فتزيد من جسده الهزيل وهنًا، غير مكترث بثقلها لا يشغل باله سوى الجنيهات التي سينالها من صاحب الحقائب بعد أن يقوم بتوصيله إلى منزله الذى يقرب أو يبعد عن السوق، "كل توصيله وليها تمنها".
في تمام التاسعة صباحًا يذهب الصبي إلى السوق، مكان عمله معلنًا عن نفسه "تاكسي تاكسي، أوصلك لحد البيت"، منتظر إحداهما لتنادي عليه "تاكسي" فيهرول إليها مسرعًا ويصاحبها في رحلتها داخل السوق، يحمل منها الحقائب "وأحيانًا بنقي قوطة وخيار"، يسمع سجالها مع بائع الخضروات لتخفيض سعر كيلو الكوسة، ونقاشها مع إحدى الزبائن حول ارتفاع الأسعار، ومسلسلات رمضان، وأحيانًا يأخذهن الحديث إلى أكله جديدة خفيفة على المعدة، فيستمع إلى ذلك الحديث المتشابه نغماته، دون أن يقوى على الاعتراض، فيشاركهما الحديث تارة، وأخرى يخبرهما عن بائع أسعاره منخفضة، أودكان جديد لتصليح الأحذية تم افتتاحه في اليوم السابق .
بعد رحلة شاقة داخل أدغال السوق الذى يعرف خباياه ويحفظ بائعيه وزبائنه، يصطحب الصبى الذى لم يبلغ من العمر سوى خمسة عشر عامًا، تلك السيدة إلى المنزل، ليعاود إلى السوق مرة أخرى بحثًا عن توصيلة جديدة ورحلة أخرى متكررة الملامح، وبعد آذان العصر يحصد غنماته من الأموال وبقايا الطعام، وبعض قطع الحلوى، ويذهب إلى أقاربه ليتشاركو معًا في الأموال القليلة لشراء الطعام اللازم للإفطار، ويعاود بعدها إلى السوق حيث تشتد وتيرة العمل "الشغل الصح بعد الفطار".
"شغلتي الأساسية تاكسي بس لو حد طلب مني حاجة تانية ميضرش"، فبعد أن تخف وطأة الأرجل عن السوق، يساعد محمد البائعين في نقل بضائعهم داخل المخازن، ويعاود في باكورة الصباح مساعدتهم في وضعها أمام المحال، مقابل جنيهان أو ربما ثلاثة في اليوم، خفة ظلة وقدرة تحمله جعلاه مقرب إلى نفوس البائعين مما جعلهم يفضلوه عن غيره ويعرضون على زبائنهم الاستعانة به، "أبو الشيل" هكذا يطلقون عليه مستعرضين قدرته على حمل أكبر قدر من الحقائب دون شكوى.
منذ ثلاثة سنوات قرر الفتى أن يترك قريته الصغيرة بمحافظة قنا ويذهب للعمل مع أحد أبناء أعمامه في القاهرة الذي يكبره بخمس سنوات، فحمل على عاتقه مسئولية الإنفاق على نفسه ومساعدة والده للإنفاق على أشقائه الصغار ومنحهم فرصة للتعليم بعد أن منعته الظروف من دخول المدرسة "علشان يبقي ليهم هيبة وسط الناس"، عشرون جنيهًا يدفعهما محمد ليشارك أقاربه وزملائه في دفع إيجار الشقة الصغيرة التي يعيشون فيها، ويرسل ما تبقى معه إلى والده، وفي الأعياد والمناسبات يعود محمد إلى قريته، ليتنسم دفئ أسرته وعند نفاذ آخر جنيهًا يمتلكه يعود مرة أخرى "تاكسي" في السوق.