كتبت- دعاء الفولي:
''حنظلة'' قاتل ودود، أطلق الرصاص على رأس والده في صمت، لكنه يظل ودودًا، حنظلة ''طفل صغير''، عمره عشر سنوات، لا يكبر أبدًا، تهرم الأنظمة العربية وحكامها، ويبقى هو موجودًا، لا يدير وجهه لها ولا لإسرائيل، لا يأبه بهم، يتحداهم على قارعة قوتهم، حزين أبد الدهر، مستاء، ثائر بشكل استثنائي، من قال إنه ليس حقيقيًا، هو عين الواقعية، غير أنه ''رسمة كارتونية''، من لوحة لأخرى يتنقل الطفل، منذ أن رسمه صانعه لأول مرة 5 يونيو عام 1967، أبى أن يموت؛ فمات عنه صاحبه ''ناجي العلي''.
أما ''العلي'' صديقه، فقد وُلد بقرية الشجرة عام 1937، الواقعة بين طبريا والناصرة، فلسطين هي بلده، عاش فيها عشر سنوات حتى طرده الاحتلال الإسرائيلي مع أسرته 1948 لمخيم عين الحلوة بلبنان، منه بدأ الرسم، على الأرض، الحيطان، الخيمة ''14'' حيث كان ينام مع إخوته، تحول المخيم إلى روح غضب مكبوتة، المعارضة ألقته حين كان شابًا بسجون الجيش اللبناني، أُعتقل ست مرات في شهرين عام 1959، حيطان السجن كانت لوحة كبيرة للرسومات، البالغ عددها حين وفاته 40 ألف، في البلاد المختلفة كان يتحرك، إلا أن فلسطين كانت تجوب معه العالم، برسوماته عنها، مُنفذًا وصية مُعلمه في مدرسة المُخيم حين كان طفلًا ''ارسم يا ناجي.. لكن ارسم دايمًا عن الوطن''.
شعيرات قليلة على رأس الصغير ''حنظلة''، يدان تقبعان خلف الظهر دائمًا، وجه مطأطئ للأسفل، ثياب مُقطعة، روح مُهشّمة رغم القوة، صنعه ''العلي'' ليتحدث عن ضعف الأنظمة العربية وهوانها في الوقوف بجانب فلسطين المحتلة، للسن دلالة، عمر حنظلة يطابق حال صانعه عندما طُرد من الأرض، سماته تمثل النكبة الفلسطينية، للصغير رأي؛ فوجهه الذي أشاح به عن الكون لن يظهر إلا عندما تصبح الكرامة العربية غير مهددة، كان الرسام الفلسطيني يأمل ألا يموت قبل أن يرى العالم وجهه، لكن ذلك لم يحدث.
لم يفلت أحد من نقد ''العلي'' وخليله الصغير، لا الحكومات ولا المحتل، منبوذًا كان منهم جميعًا، مثل علامة تجارية كان ''حنظلة'' في جميع اللوحات، بجانب النقد اللاذع من الرسم، هناك الكلمات ''من راقب الأنظمة مات همًا''، ''عش هكذا في علو أيها العلم.. فإننا بك بعد الله نعتصم''، كتبها الرسام، بينما يرفع الصغير يده عاليًا بالعلم يعلقه فوق نظيره الإسرائيلي، لم يتوقف الأمر على الرسم في جريدة القبس الكويتية، بل في ''الطليعة''، ''السياسة'' وجريدة ''السفير'' اللبنانية، كان البعض يتهمه بالانحياز وعدم الموضوعية فيقول ''أنا منحاز لمن هم تحت''، عالمًا أن الطريق إلى فلسطين لن يحدث إلا بـ''ثورة'' على حد تعبيره.
لـ''العلي'' أولاد آخرين، ''فاطمة'' التي تعبر عن فلسطين، عرفها دائمًا في خطوطه بأنها لا تهادن، زوجها عكسها في كثير من الأحيان، تقوده هي في الرسومات، بينما يقف الرجل الضخم المتخم باللحم، متبلد الوجه، يتحدث باسم الحكام العرب، وأخيرًا ذو الأنف الطويل الذي يمثل الاحتلال الإسرائيلي، يبدو رغم خبثه متوترًا بشكل دائم، لكن ''حنظلة'' يبقى هو المُفضل له، يحكي عن نفسه من وحي كلمات صانعه ''أمي اسمها نكبة وأختي الصغيرة فاطمة.. جنسيتي: أنا مش فلسطيني مش أردني مش كويتي مش مصري.. مش حدا..معيش هوية ولا ناوي أتجنس..محسوبك إنسان عربي وبس''.
في 29 يوليو 1987، أسفل العين اليُمنى كانت الرصاصة، سائرًا في شوارع مدينة لندن القديمة، يتأبط ''حنظلة'' و''فاطمة''؛ فالصغير المشاكس كان لا يشعر بالأمان إلا بين جنبات يده، قطرات من الدماء لطخت الطفل المرسوم على الورق، لو باستطاعته لقفز يهز كتف صديقه وأبيه وصانعه بحدة، يوقظه، تجمع بشري حول المُلقى على الأرض، سيارة إسعاف، غيبوبة حتى منتصف أغسطس، ثم رحيل، روايات مختلفة عن أن اغتيال ''العلي'' كان من قبل الموساد الإسرائيلي أو بعض الأنظمة العربية التي انتقدها بحدة، لم يعرف أحد حتى الآن، لكن ''حنظلة'' يعلم جيدًا أنه قد قتل ''العلي''، لأنه فكرة لم ترتضِ الموت، ولا الصمت على الانبطاح أمام المحتل الإسرائيلي، عزاء ''حنظلة'' الذي أتعسه الحظ أنه باق رغم فناء صاحبه، وأن الأخير أخبره يومًا عن المصير فقال ''اللي بدو يكتب لفلسطين واللي بدو يرسم لفلسطين.. بدو يعرف حالو: ميت''.