كتبت - إشراق أحمد:
الرابعة عصرًا، الوجوه شاحبة، ظلال الإرهاق لا يفارق جفون العين، الجميع يتشبث بابتسامة على مضض لأمل يأتي ويذهب لكن لا يفارقهم، انتهى وقت رؤية نور الشمس، تنغلق الأبواب الحديدية، يوصدها الرجل ذو الملابس "الميري"، يجلس "محمود عبد الشكور أبو زيد" في ركن قصي، أكثر من 300 يوم يتابع انكسار الشمس على الجدار الأصفر لونه، عبر فتحتين بأخره، يبلغ طول كبراها 25 سم، ينحدر بصره على الحائط، قد حفظ كلمات خطها مَن سبقوه عليها، ينظر للجمع المفترش الأرض، تلتقط عيناه صور بين ظلام الجدران الأربعة، فلم يعد بإمكان الكاميرا تسجيل ما يرى، لا غير أوراق يسطر عليها كلمات خلف قضبان "ترب طره" كما يسميها، تسجل حروفها صرخته الأولى منذ دلف "أنا مصور صحفي".
البداية.. فض رابعة
في الرابع عشر من أغسطس 2013، جمع "شوكان" -كما يلقبه أصدقاؤه- معدات التصوير للتوجه إلى ميدان رابعة العدوية لتغطية أحداث فض الاعتصام، حاول أخيه الكبير "محمد أبو زيد" ووالديه إثناءه، ساورهم القلق خلاف كل مرة يذهب بها إلى العمل، "لازم أنزل ده شغلي" قال "محمود" مودعًا عائلته ثم مضى.
بشارع الطيران في مدينة نصر، الدماء تُطوق المكان حال الأمن، المشهد أشبه بساحة حرب، يتابع "محمود" التقاط الصور، برفقة مصور فرنسي ومحرر الـ"نيوزويك" كان، لحظات وانقض الأمن على ثلاثتهم، قبضُ عليهم رغم صياح "شوكان" بأنهم صحفيين، استاد القاهرة بداية رحلة المصور الصحفي مع الاحتجاز، ضرب وسلب لمعداته ناله الشاب، أُطلق سراح رفاقه الاثنين وبقى هو، في غضون الثامنة صباحًا تحدث إلى أخيه "محمد": "أنا اتقبض عليا وتقريبًا هترحل للقسم التابع لمنطقة السكن يعني الهرم".
ثلاثة أيام من البحث المتواصل لشقيق "محمود" دون مجيب، حتى جاءه اتصال هاتفي مجهول استنتج أنه قريب أحد المحتجزين يخبره عن تواجد أخيه بسجن أبو زعبل، 15 يوم خلف القضبان لم تستطع عائلة "شوكان" رؤيته لمنع الزيارة "عشان أكلوا علقة متينة فماكانوش عايزين الأهل يشوفوا ولادهم كده فيعملوا مشاكل "قال الأخ الكبير الذي تفاجأ بترحيل شقيقه في باديء الأمر لقسم القاهرة الجديدة أول. *
أنا مصور
"أنا مصور صحفي" أخذ يردد "شوكان" منذ إلقاء القبض عليه وحتى سجنه، يسأله وكيل النيابة عن التهم المنسوبة إليه من الانتماء لجماعة محظورة، القتل، تعطيل العمل بالدستور، تكدير السلم العام، فيجيبه بها، لكن حديثه ظل "بيضرب به عرض الحائط"، حيث تعاملت أوراق الاتهام معه ولازالت باعتباره متظاهر.
"شوكان" شاب عشريني تخرج في أكاديمية أخبار اليوم، أعلن احترافه التصوير الصحفي منذ التحاقه بها، بدأه بالتدريب في جريدة الأهرام المسائي بالأسكندرية وهو مازال طالبًا، مرورًا بمشروع التخرج، إذ كان الوحيد بين رفاقه الذي اختار فكرته عن التصوير، حاول "شوكان" العمل في عدد من الجرائد لكن "حظه كان عثر" كما قال "بسيوني" الذي توطدت معرفته به منذ 2007.
"أنا مخطوف نزلت من البيت الذي أرعى فيه أبوايا المسنين لأداء عملي ولم أرجع بعد" سَطر الابن الأصغر لآل "أبو زيد" داخل محبسه بسجن "طره" الذي انتقل إليه
عد ثلاثة أشهر مكثها في "أبو زعبل"، لم تأبه التحقيقات لبطاقة هوية "شوكان" التابعة لوكالة "ديموتكس" البريطانية التي يراسلها منذ 2011، ولا التوقيعات التي جمعها عدد من المصوريين في محاولة لتأكيد انتماءه للمهنة، بل بات تجديد الحبس حال المصور الصحفي الحر في القضية رقم 15899.
الأبيض والأسود لوني "شوكان" المفضل في التصوير "كان بيبعت صور المظاهرات أبيض وأسود وده ماكنش بيعمله كتير من المصورين" قال خالد بسيوني مصور مجلة أكتوبر وصديقه، وكأنما انطبع عشقه لهما على حياته، فكانت بينهما، يمتزجا معًا؛ عشق التصوير دافعه للنحت في الصخر إذا لزم الأمر، سعادة التقاط صورة جيدة منذ أمسكت يداه الكاميرا وهو بسن الخامسة عشر عامًا ما يهون صعوبة العمل كمصور حر، إيمانه بعمله وقدرته على تخطى الأمور يخفف قسوة القضبان. *
لم يكن عمل "شوكان" بشكل حر اختيار إرادي، بل "تقبل" في سبيل الاستمرار بعمل شغف به، يؤمن أنه فن لذلك ظل يصور بالكاميرات القديمة جانب "الديجتال" حتى لحظة القبض عليه "كان معاه كاميرتين مانيوال" لم يكن يعترف بالحديثة "كان بيقول أي حد ممكن يدوس على الزرار ويصور" كما قال شقيقه.
مواجهة الصعوبات.. وحيدا
"حلاوة المرارة..أنك وحيد دون مساندة من أحد تقف هنا، تلتقط هناك، تركض هنا وهناك وحيدًا متحديًا الصعوبات واللامعلوم..." هكذا دون "شوكان" بين جنبات السجن شعور أن تكون "حر" في التصوير فينعكس ذلك على الحياة، عشرة أشهر لم يتحرك ساكن بشأن حبس "شوكان"، فبات حاصدًا للقب صاحب أطول مدة يقبع بها صحفي داخل السجن، لم يداوم على زيارته سوى الأهل وأقل القليل من أصدقاء المهنة. *
خمس دقائق "فضلنا حاضنين بعض وبنتكلم وأحنا كده" وكأنه لقاء بعد غيبة طويلة أمضى "محمد" الشقيق الأكبر لــ"شوكان" والداعم له في رحلته أول زيارة له بعد
حبسه، حالته النفسية السيئة في الأسابيع الأولى لا ينساها، وكذلك تقبله الأمر مع استمرار حبسه، كل ذلك ولد لدى شقيقه حالة استياء تزيد مع اهتمام الصحفيين الأجانب بأخيه أما "الصحفيين المصريين لما يتكلموا كأنه تقضية واجب على استحياء"، موجة غضب عارمة تشتعل في صدر "محمد" مع تكرار البعض مبرر عدم الحديث عن "شوكان" بالشكل المطلوب "بسبب السياسة التحريرية وأن العلاقة مع الأمن اتحسنت"، على حد قوله.
"كنت فاكر إن الناس نسيتني" قال لزميل التصوير"بسيوني" وقت الزيارة، بادله البكاء مخبرًا إياه بمحاولات الحديث عنه خارج أرجاء السجن، لحظات مرت سريعًا في ليالٍ مظلمة طويلة داخل السجن، أضحى بها لا يلح مثل السابق لمعرفة مَن يسأل عنه، فالإجابة غدت مؤلمة.
لوائح النقابة
لا تعترف لوائح نقابة الصحفيين بـ"شوكان" كمصور صحفي بشكل رسمي باعتباره غير مقيدا بالنقابة، ذلك حال صحفيين ومصوريين كثر، منهم مَن قضى نحبه والآخر ينتظر أن يتغير الحال، لم يلتق "حسام دياب" رئيس شعبة المصورين الصحفيين السابق بالمصور الشاب وإن عرف أعماله، عقب معرفته بالأمر حاول التواصل مع الجهات
الأمنية وكذلك النقابة لكن شيئًا لم يجد "النقيب تحكمه لوائح لازم تتغير" على حد قوله.
"الصبر مر.. الظلم حرام.. والتجاهل أكثر ما يقتلني في سجني.." بأوراقه خط تلك الكلمات وحينما لاقى شقيقه أخبره "ماتردش على حد تاني"، فـالشاب العشريني "غسل إيده من الصحفيين" على حد قول أخيه، وزاد يقينه أنه لا خروج بمساندة أحد غير الله، خاصة وأن ما يقرب من 500 شخص توالى الإفراج عنهم وكانوا قد تم القبض عليهم في ذلك اليوم "وضع محمود كان أحسن منهم" حسبما قال شقيقه.
45 يوم تجدد حبس "شوكان" في 18 يونيو الجاري، في كل مرة يتدفق الأمل بالخروج لكنه يعود لظلمات السجن، إلى أوراقه يكتب فيها من جديد عسى ألا يأتي 10 أكتوبر القادم ليتم عامه الـ27 دون أن يجيبه أحد "لماذا أنا هنا..لماذا أجلس في الزنزانة طوال هذه المدة؟".
كاميرات المراقبة تكشف منفذى عملية إختطاف طفل الإسكندرية من والدته