كتبت-دعاء الفولي:
طفل صغير يلهو بأحد الأراضي الزراعية، بمركز ميت غمر، محافظة الدقهلية، لا يمنعه حفظه القرآن الكريم كاملًا في الحادية عشر من عُمره، من مناغشة إخوته بينما يلعبون، له مع العلم حكايات، أولها التحاقه بمعهد الزقازيق الأزهري الابتدائي، أوسطها دخوله مؤسسة الأزهر الشريف، وآخرها ''إمام''، له مريدين شتى، يحكي لهم قبس من نور القرآن الكريم، يُفسره، تتهلل أساريرهم، تتعالى أصوات الجلوس أسفل مقعده الشهير، تسبيحًا وحمدًا وتكبيرًا لله، وثناءًا على ما يقول، لا يتكلم بلغة صعبة، بل يفهمها الذي لم ينال شهادة قط، بين الطفل والشيخ، رحلة تعلّم فيها أخيرًا أن بحار الدعوة إلى الله أفضل من المناصب وإن كَثُرت.
لم يُريد طالب الأزهرية الثانوية ''محمد متولي الشعراوي'' يومًا أن يذهب إلى الأزهر بالقاهرة، جل ما تمناه أن يبقى لجانب أبيه وإخوته، يرعى الأرض، الوالد أصرّ، شيء ما جعله يضغط على الابن كي يذهب، جهّز له المسكن والكتب وكل ما يحتاج، كان ذلك في عام 1937، بالغًا من العُمر 26 عامًا دلف إلى كلية اللغة العربية، بين مدينة طنطا والإسكندرية والزقازيق كان الشاب الذي تخرّج وحصل على إجازة للتدريس يتنقل، حتى سافر إلى السعودية ليعمل مُدرسًا بجامعة أم القرى.
المناصب كانت تُلاحق الشيخ ذو الطاقية البيضاء دائمًا، من مدير للدعوة بوزارة الأوقاف، لرئيس لمكتب شيخ الأزهر ''حسن مأمون''، ثم وفي عام 1976 كان وزير للأوقاف للمرة الأولى، بين المشاغل المستمرة، امتلكت الدعوة شغاف عقله، لا يتوقف عنها ولو بكلمة أو توجيه، حتى ولو كانت لرئيس الجمهورية، كما قال للرئيس ''محمد حسني مبارك'' حينها، بعد توليه المنصب ''أنصح كل من يجول برأسه أن يكون حاكمًا، ألا يطلب الحكم.. بل يجب أن يُطلب له''، آخر منصب تولاه كان عضويته بمجلس الشورى عام 1980، تفرّغ بعدها للدعوة وتأليف الكُتُب فقط.
27 جزءًا من القرآن وبضع سور فسرها الإمام الراحل، لم يُمهله الموت أكثر منها، لزمات التصقت به، كانت معه حتى الوفاة، كلمة ''إيه'' التي يقطع بها تفسيره أحيانًا، ليسأل الجالسين بالمسجد أمامه يستمعون، يختبرهم، كمُعلم زكي، لم تنسيه السنوات أن سؤال الطالب أفضل طرق توصيل المعلومة، قدماه المتعاكستان على المقعد الفخم، حركة جسده إلى الأمام والخلف تفاعلًا، والمُصحف بيده اليُمنى، ''خواطرالشعراوي'' هو اسم البرنامج الذي قرّب الشيخ من الجمهور الإسلامي أكثر؛ تعرفه الأذن من موسيقاه.
خمسة عشر شهرًا قضاها الإمام في مرض، كربٌ ألمّ به، لم يُلهيه عن تفسيره بحال، في السابع عشر من يونيو، عام 1998، انتقلت الروح إلى بارئها، عن عمر ناهز السبعة وثمانين عامًا، لم يأل فيهم جُهدًا، كلمة أو حرف في سبيل تعليم الناس وتأديبهم بالدين، الجنازة التي حُمل فيها نعشه كانت مهيبة، لم يُنصّب نفسه يومًا مُفتيًا على العامة، إذا ما جاءه أحدهم لفتوى يقول ''اقعد أنت ورزقك..فالحديث أرزاق وفتوح.. ربنا يفتح''، له مواقف حسبه البعض متهورًا عليها، حيث اعترض على فتوى الشيخ ''سيد طنطاوي'' مُفتي الديار المصرية، بتحليل فوائد البنوك، لكنه أباحها لمن لا يجد قوته أن يحصل على قرض، في الوقت الذي أنشا فيه أول بنك إسلامي دون فوائد وهو ''بنك فيصل''.
''الحمد لله الذي أذاقنا طعم هذه الوظيفة ومارسناها حتي لانشتهيها بعد اليوم، وحتي نعود إلي خدمة الدين''، كانت تلك الجملة، آخر ما قال قبل مغادرته وزارة الأوقاف عام 1978، لم تبرح كلمات ''اعتقوني لوجه الله'' فمه، منذ أن بدأ العمل فيها، فما استراح حتى تركها، رحل عن الدنيا وكلماته تفيض في وسائل الإعلام حتى الآن، برامجه لازالت تتقدم المشاهدات، مواقفه مذكوره، حتى عند الذين اختلفوا معه، حاول تقديم الدعوة على المناصب دائمًا، فمات وبقيت دعوته.
الفوازير القديمة و''الشعراوي'' على شاشات التلفزيون المصري في رمضان