كنت أترقب نهاية الفيلم، ليس فقط من أجل أن أعرف إلى أين ينتهى مصير البطل؟ ولكنى كنت أتوق لمعرفة رد فعل جمهور أغلبه ينتمى إلى ثقافات دينية وفكرية مختلفة، بينما الفيلم يضع أمامه هدفًا ثابتًا لا يغيب ولا يحيد عنه وهو الدفاع عن الدين الإسلامى، ولا يمكن قراءة فيلم «جليد فى الجنة» البريطانى المعروض فى قسم «نظرة ما» إلا على هذا النحو، فهو مباشر أكثر مما ينبغى ويعلن عن هدفه بلا مواربة للدفاع عن الإسلام، ولكن بلا إطار أو رؤية سينمائية.
فى السنوات الأخيرة صرنا نتابع بين الحين والآخر غضبًا عارمًا يعترى العالم الإسلامى بسبب رسوم مسيئة للرسول، عليه الصلاة والسلام، أو فيلم مسىء إلى الإسلام يغزو النت، ونبدأ فى تدشين جماعات المقاطعة لتلك الدولة أو نجد شخصًا صار مطلوبًا للقصاص بحجة أنه تطاول على الإسلام. صار الدين كأنه هدف ولوحة تنشين للهجوم الضارى، وعلى الجانب الآخر وبالطبع لا يؤدى الأمر إلى شىء، فكان يقينى الدائم أن الأمر ينبغى أن لا ينظر إليه باعتباره مؤامرة غربية تستهدف الإسلام، ولكنْ هناك غياب، كلنا شاركنا فيه، أدى إلى ترسيخ صورة ذهنية سيئة عن الإسلام والمسلمين، وهكذا جاء تصفيق الجمهور مع نهاية الفيلم ليؤكد أن الجمهور فى أغلبه محايد تجاه الدين، يريد فقط المعلومة التى يراها على الشريط، ورغم ذلك فأنا أرى دائما أن الفن ليس فقط فى قيمة الرسالة التى يحملها، سواء كنت موافقًا أو معترضًا عليها بقدر ما هو فى قدرته على التعبير والإمساك بالتفاصيل والانسياب الواجب توفره فى الرسالة المضمرة، وهو مع الأسف ما لم أعثر على أى ظل له فى الفيلم البريطانى.
كان الجامع هو المرفأ والسكن والأمان لبطل الفيلم من العدوان الخارجى الذى بات يحاصره، من الأشرار الواقفين على الباب، يريدون الفتك به، لأنه قرر أن يتوقف عن الاتجار فى الممنوعات.
المخرج أندرو هولم الذى شارك فى كتابة السيناريو يقدم صديقين، داف وطارق، يحاول طارق -الذى نعلم أنه مسلم متدين وليس متطرفًا- أن يثنى صديقه للابتعاد عن هذا الطريق الذى يتعارض مع قناعاته الشخصية والدينية، ولكن داف يبدو أنه لا يلقى بالًا لكل هذا، وليس لديه أى قناعات دينية، وبعد أن يقتل طارق يجد داف أن بعضًا مما قاله صديقه المسلم يحرك شيئًا فى أعماقه، ويبدأ فى طرق باب الجامع.
المرة الأولى يدخل إليه بالحذاء، فهو لا يعرف القواعد، بعدها يتعرف على تلك الطقوس الخاصة، وتأتى إلى مسامعه بعض آيات قرآنية تتناهى إلى سمعه، بالطبع لا يتبينها ولكنها تحمل شيئًا يدفعه إلى أن يعيد مجددًا الإنصات إليها بعيدًا تمامًا عن الاتجار فى المخدرات، بل وتعاطيها، ولكن داف يصر على استكمال المشوار، ويبدو الجامع كأنه قلعة تحميه من العدوان الخارجى «الجليد فى الجنة» اسم يستحق التأمل، لأن البطل يبدأ فى الحقيقة فى اكتشاف الإسلام، ولا ينسى المخرج أن يبث بين الحين والآخر اتهامًا صار لصيقًا بالإسلام مثل الجهاد الذى يعنى فى المفهوم الشائع إزهاق الأرواح وقطع رؤوس الأبرياء لمجرد أنهم أجانب أو مختلفون، ولكن فى حوار بين بطل الفيلم وإمام المسجد الذى يلجا إليه تأتى الإجابة بأن الإسلام برىء من كل هذا.
الكثير من المشاهد والأحداث التى تملأ الفضائيات تؤكد أن الإسلام هو دين العنف والتطرف، وجاءت الإجابة بأن المقصود بالجهاد هو مقاومة النفس الأمارة بالسوء للبعد عن معصية الله.
نتابع بطل الفيلم وهو يغسل أرض الجامع ويتعلم الوضوء ويضع المصاحف فى المكتبة وينتهى الفيلم بمشهد ذكر أرى البطل فى منتصف الدائرة، ويبدأ فى الاندماج على إيقاع الأداء الدينى للأدعية الدينية، ويأتى إلى منتصف الدائرة، كأنه يشبه أداء راقصى التنورة، وطال هذا المشهد أكثر مما ينبغى، طقس الذكر الذى رأيته لا مردود له فى الشيعة أو السُّنة، كما أن هناك استخدامًا لآلة «البونجز» لضبط الإيقاع، وهو ما لا يحدث فى الواقع، حيث إن الدُّف يلعب هذا الدور كأن المخرج يستدعى شيئًا من الذاكرة أو ربما صورة مشوهة تراكمت لديه عن طقس الذِّكر فى الإسلام.
الفيلم متواضع فى بنائه الفنى والفكرى، ففى مشاهد نرى زعيم عصابة المهربين وهو ينكر وجود الله والشيطان فيعتبر نفسه هو الله والشيطان معًا، بينما بطل الفيلم يزداد اقترابًا إلى طريق الإيمان.
هل الإسلام بحاجة إلى عمل فنى؟ بالتأكيد، إنه وسيلة فعالة لتغيير الصورة الخاطئة عن الإسلام، فما تبثه الفضائيات من مشاهد قتل وتعذيب وسفك دماء ممن يطلقون عليهم إسلاميين لعبوا دورًا سلبيًّا ضد الدين.
انتشار «الميديا» الفضائية أسهم بقسط وافر فى ترسيخ صورة الدماء والقتل التى، مع الأسف، صارت لصيقة بشخصية المسلم، بينما العالم العربى والإسلامى لا حس ولا خبر.
يكفى أن نذكر كيف أن المخرج الراحل مصطفى العقاد لم يستطع إكمال الطريق وتقديم مشروعه عن «صلاح الدين» بعد فيلمه «الرسالة» الذى ظل الأزهر الشريف يمنع عرضه أكثر من 30 عامًا بحجة ظهور شخصية سيدنا حمزة بن عبد المطلب، عم الرسول عليه السلام. كذلك فإن الشخصية العربية فى السينما العالمية دائما تميل إلى العنف فى المطلق أو ضد المرأة تحديدًا مثلما شاهدنا مثلًا فى فيلم «يومان وليلة» للأخوين «داردين» عندما تناولا ضمن أحداث الفيلم شخصية الزوج العربى.
وكما ترسخ السينما للثرى الخليجى الذى ينفق أمواله للهو، أحيانا نجد أن هناك ارتباطا شرطيا بين تحية «السلام عليكم» والإرهاب والدموية، فأحيانا نرى المسلم يصلى وبعدها يمارس كل أنواع العنف، نعم فيلم «الجليد فى الجنة» يقدم صورة إيجابية للإسلام، ولكن العمل الفنى ينقصه الكثير لكى تصل بالفعل رسالته.
الفيلم مسؤولية كل مشاهد!!
انتظره كالعادة الجمهور فى المهرجان، المخرج الأكبر عمرًا بين كل المخرجين الذين شاركوا فى المهرجان. أتحدث عن أيقونة السينما الفرنسية جان لوك جودار، الذى لا يزال فى الملعب وهو يقدم سينما خاصة جدا تعتمد فى قسط وافر منها على المتلقى الذى يعيد البناء بين تلك الصور التى تبدو للوهلة الأولى متنافرة، نحن أمام رجل منفصل وامرأة متزوجة وصفقات مالية، نرى فقط شذرات منها. وكلب له مساحة دائمة فى الشريط وسينما يرسم ملامحها جودار ويطلق عليها «وداعا للغة»، حيث يصبح التواصل لا يحتاج إلى حروف الكلمات، ولكن إلى الإحساس. ويأتى المشهد الأخير الذى نستمع فيه إلى نباح كلب وصياح طفل معًا، وتلك هى اللغة التى لا تتكئ على أبجدية. عند انتهاء الفيلم استمعت إلى تصفيق صاخب، إلا أن الفكرة التى أرادها المخرج كان من الممكن أن تصل فى دقائق، فما الحاجة إلى أن يستغرق زمن الفيلم 70 دقيقة؟ لماذا يترك المخرج كل هذه المساحات للجمهور لكى يعيد المتفرج تشكيل الصورة كما يحلو له؟ كما أننى لم أجد أى مبرر لاستخدام تقنية البعد الثالث فما الإضافة التى يحققها التجسيد من خلال فيلم قائم على أن المتفرج طرف فاعل ومؤثر فى اللعبة الدرامية، وهو الذى يتأمل ويربط بين الخيوط، أين هى الإضافة؟ وما المنطق الذى دفع مخرجنا إلى تلك التقنية؟ هل يريد مثلًا، وهو من عاصر سينما الأبيض والأسود فى بداية مشواره، أن يضاف إلى تاريخه السينمائى فيلمٌ مصنوع طبقًا لآخر المستجدات الحديثة؟ لا أتـصور أن هذا من الممكن أن نقبل به كهدف.
البعض يعتبر أن كل ما يصدر عن جودار هو العبقرية، كما ينبغى أن تكون العبقرية، سواء وصل إليه الذى يرمى إليه المخرج أو لم يصل، ما رأيته أشعرنى بالفذلكة ولا يوجد تعبير لغوى آخر!!