الكتابة فى قيظ الصيف فعل مكروه ومضن، غير أنه فى الشتاء ليس أفضل حالًا.. ومن تكون الكتابة حرفته كمثل العبد لله قد يراه أغلب الناس محظوظًا، إذ حباه المولى تعالى بنعمة ليست ميسرة إلا للقليلين من عباده، وهو أمر صحيح طبعًا، لكن أن تكتب هاويًا مدفوعًا بإلحاح الرغبة فى التعبير فحسب، شىء مختلف نوعيًّا وكليًّا عن أن تكتب ملزمًا ومواظبًا وملتزمًا بواجبات الوظيفة وضرورات أكل العيش، ويظهر الغبن والمكابدة واضحين وثقيلين لدرجة ينوء بحملهما الجبال عندما يختار الكاتب المحترف أن يقيد نفسه بالصدق وشرف الكلمة ونبل المقصد (بغض النظر عن الخطأ والصواب) وأن يجاهد طول الوقت لكى يحافظ على «قيمة ما» لما ينشره على الناس ولو قيمة المتعة العقلية.
هذه السطور ليست نواحًا ولا شكوى، فالشكوى أصلًا، لغير الله مذلة ومهانة لا لزوم لها، فضلًا عن أن القراء لا ذنب لهم ولا يعنيهم أن شخصًا فى هذه الدنيا امتهن الكتابة وترك فرصة أن يعمل كواء (مكوجيًّا) مثلًا، أو سباكًا أو حتى صايع، لا شغلة له ولا مشغلة إلا أذيَّة عباد الرحمن (بعض من يكتبون بالعافية فى هذا الزمن يتصرفون كأسوأ وأغبى أنواع الصِّيَّع، إذ يتحول القلم فى أياديهم إلى شىء أقرب إلى مطواة قرن غزال أو «بشلة» يُلوِّشُون بها شمالًا ويمينًا).
ومع ذلك أظن أنه من حق القارئ الكريم، ومن حقى عليه أن يتقبل ويتسع صدره، ولو على سبيل التسلية، لشىء من البوح هو فى الحقيقة أقرب إلى الاعتراف بأننى شخصيًّا (لا أستطيع الكلام باسم كل زملائى) موزع النوازع ويكاد يهرسنى التناقض بين شعورى أحيانًا بالضيق والحنق على الأقدار التى ألقت بى فى رحاب هذه المهنة المضنية، وإحساس عارم بالسعادة والفرح، وربما الفخر فى أحيان أخرى!!
ومن آيات الشقاء أنه لا فاصل زمنيًّا معقولًا بين الحالين، فكثيرًا جدًّا ما يحدث أن أبدأ الكتابة منهكًا حانقًا، ثم ما أن يتكرم ملاك الصفاء الذهنى ويحضر فيكتمل احتشادى واندماجى حتى يغمرنى شعور بالراحة والرضا لا يمكن وصف حلاوتهما.. ولا أنسى الجائزة الكبرى التى قد يحصل عليها عبد الله الفقير عندما أصادف واحدًا من القراء، فإذا به يسرف فى الذوق والكرم مادحًا بعض ما أكتب فأرتبك وتحمر أذناى وتحلق روحى فى أعلى سماوات السعادة التى سرعان ما أهبط منها خائفًا مرتجفًا من عظم المسؤولية تجاه قارئ منحنى حسن ظنه عن بعد وبغير دليل مادى سوى كلمات وسطور توسم فيها شيئًا من الصدق أعجبه، أو رأيا وافق رأيه.. وربنا يستر.
وما دمت صدعت رأسك باعترافاتى، فعشمى أن تكمل جميلك ومعروفك وتسمع (مشيها «تسمع» مع أنك تقرأ) باقى معاناتى ومكابدات كاتب يكتب وهو ينظر طول الوقت حوله متحسبًا وخائفًا من ألف شيطان على الأقل، ليس أقلهم شرًّا شيطان «التكرار» وإعادة إنتاج ما كتبناه وصرخنا به ألف مليون مرة من قبل، بسبب أن الشياطين من كل نوع (لصوص وإرهابيين وفاشيين) تكالبت علينا على مدى عقود وسنين طويلة وأغرقتنا فى البؤس والخراب الشامل المادى والروحى والعقلى.. وهى تختم الآن بشلال دم طاهر لعله ينتهى ويتوقف قريبًا.
وتآكلت المساحة فلم يبق إلا أن أشكرك.. وصباح الخير.