1
صورة أمل دنقل فى ذهنى هى شاعر صعلوك تغويه الشوارع ولا يمتلك بيتًا. استعاض عن إقامة علاقة مع المدينة المتوحشة «القاهرة» وفق البرنامج التقليدى للأفندية والمثقفين المؤدبين فى نظر السلطة... وقرر أن يقيم خيمته فى شوارع المدينة «مثل المتشردين» ويصبح مزارًا «لم يكن هناك عاشق للثقافة يأتى إلى القاهرة ولا يريد مقابلة أمل دنقل»، ووليًّا أو صاحب مقام خاص بعيدًا عن سلطة تشترى المثقفين وتضعهم فى واجهتها، وعلى رأس كتائب مدفعيتها... ولا فى علب التنظيمات السياسية، التى إما أنها تحوّلت إلى دكاكين نضال بالأجرة، وإما أنها استسلمت لسطوة الفكرة الواحدة.
أمل جاء إلى القاهرة بإحساس الغزاة. كان هذا فى المرة الثانية. الأولى عاد منها إلى قنا مهزومًا، كانت فى أعقاب العدوان الثلاثى. عبد الناصر كان فى زهوته، ومشروعه السياسى يفتن الجميع. أمل نفسه تطوع فى كتائب الفدائيين. توهموا أنهم سيحاربون على الجبهة فى بورسعيد. تدربوا على السلاح، لكنهم لم يخرجوا من مركز التدريب.
2
أمل دنقل فى أشعاره وحياته أقرب إلى أمير الصعاليك... يدافع عن المظلومين فى مواجهة الظالم. فكرة قديمة، قادمة من التراث، ربما استوحاها من طرفة بن العبد، الذى كان يسرق الأغنياء ليعطى الفقراء. والأهم من هذا أنه لم يكن شاعرًا من شعراء السلطان وفى نفس الوقت لم يكن من الخوارج أو المتصوفة. كان شاعرًا مستقلًّا. وهذا ما جعل فكرة الصعلكة فكرة تقدمية «ثورية كما يحب دراويش أمل دنقل أن يصفوها» بمعنى أنها فكرة مفارقة لواقع ولثقافة كانت تفكك المجتمع الذى رتبته ثورة عبد الناصر فى حشود.
3
لمع اسم أمل دنقل وسط طقس شعرى جنائزى بعد يونيو. لطم الخدود، والقسوة السادية على الذات. أمل كان مختلفًا. كان مثل الحكيم، الذى يعيد القبيلة إلى أفكارها الأولى. يحمل عصا الذاكرة. كان يدرك أن الخروج عن النظام العمومى «مناوشته»، أو معاداة المؤسسات الشعرية ومصانع التوحيد القياسى بضاعة تُعلى من أسهم الشاعر فى مدينة يبدو سطحها فوضويًّا. بينما باطنها وقنواتها السرية محافظة، على عكس المدن الحديثة، أو فى تعارض معها.
القبيلة موجودة تحت القشرة الرقيقة للمدينة. والشاعر هنا إله، نبى، رسول، معلم، هو أيضًا مغنًّ. واختار أمل المراثى.
4
هكذا كان أمل كأنه على وشك الانفجار.
يرونه فى السلطة يساريًّا. وفى اليسار اعتبروه مخبرًا، لأنه لم يدخل السجن. وهو لم يدخل السلطة ولا دار فى مدارات نجومها، لأنه أولًا كان يشعر بكراهية من نظام الجنرالات، رغم أنه لم يختلف مع مشروعه القومى. هو اعتقد أنه منافس للسلطة، وريث عروبة مستمدة من القبائل العربية وتراثها وأساطيرها. وهو فى الوقت نفسه لم ينضم إلى تنظيم سياسى. فكان هذا سببًا فى فقدانه شارة التميز وقتها: دخول السجن.
هكذا وضع خيمته على أطلال مشروع عبد الناصر. ومن بعده أصبح شاهدًا على عصر السادات، من حركة الطلاب، إلى فك الاشتباك الثانى بعد حرب أكتوبر، وحتى الصلح مع إسرائيل. بدا بدويًّا أحيانًا. وداعية للقومية المغلقة المتعصبة أحيانًا. ومجرد شاعر سياسى غالبًا. لكن أنقذته الموهبة وذكاء التقاط التفاصيل المعاصرة فى نفس لحظة عمل الذاكرة القديمة. لم يكن مع شعراء الأناشيد السياسية. وبقى مع مصائر شخصياته المغمورة فى الأماكن الهامشية فى القاهرة. بقى مع صوره الخاصة ورؤية ذاتية لا تتمثل فيها نبوة ولا فروسية قديمة فى «أوراق الغرفة».
5
هل يمكن أن نهرب من اختصار أمل دنقل، من حبسه فى فاترينة واحدة اسمها «لا تصالح»؟ هل يمكن التفكير فيه كشاعر يلعب، ليفسد كل الترتيبات من حوله...؟
هل كان أمل دنقل شاعرًا يلعب فعلًا..؟