الأخوان داردين يتطلعان بقوة إلى سعفـــــة «كان»
بين الحين والآخر يتغير مؤشر الجوائز تتناثر الهمسات هنا وهناك، ولا يزال هناك بالتأكيد أسماء وأفلام أخرى، كنا قد توقفنا عند فيلمَى «السيد تيرنر» لمايك لى و«نوم الشتاء» لنورى بيلج سيلين، باعتبارهما الأوفر حظًّا، وارتفع معدل التوقعات لهما مع تتابع الأفلام الأخرى ليقتربا أكثر وأكثر من السعفة، ولكن فى اللحظات قبل الأخيرة لا يزال أمامنا يومان وليلة على الختام وإعلان الجوائز التى تنقلها الفضائيات فى الثامنة بتوقيت مصر. قبل إسدال ستار التوقعات جاء فيلم وعنوانه أيضًا للمصادفة «يومان وليلة» للمخرجين الشقيقين جان ولوك داردين ليغيرا كل التوقعات السابقة، أتصور أن الذروة التى اعتلاها الأخوان من الصعب أن يطالها فيلم آخر.
تستطيع أن تعتبر المخرجين هما نصيرَى المرأة فى العالم بعد أن لفتا الأنظار فى «كان» 1999 بفيلم «روزيتا» الفائز بجائزتى السعفة وأحسن ممثلة، رغم أن بطلة الفيلم كانت تُقدم أول دور لها ولم يسبق لها وقتها الوقوف أمام الكاميرا. الفيلم كان يطالب بإنصاف العمال واختار شابة صغيرة تحاول أن تجد لنفسها موقعًا تحت الشمس فى وقت يطاردها الفقر من ناحية وأمها المدمنة من ناحية أخرى. كنت متابعًا لأحداث «كان» وكان اسما المخرجين لم يصلا بعد إلى تلك المكانة الخاصة، فكانت الجائزة هى أول من أشار بقوة إليهما على خريطة السينما العالمية.
يبدو أن جلسات العمل والمعايشة مع الممثلين تطول، وهكذا يصبح التصوير أكثر سلاسة وحميمية، وأوضح المخرجان بالفعل فى حوار معهما أن هناك مرحلة معايشة تسبق تصوير العمل الفنى وأنهما يشتغلان على الممثل بجلسات عمل طويلة، ومن بعدها صارا هما الأخوين الأشهر فى السينما الآن. والغريب أن السينما عرفناها فى البداية مع الأخوين الفرنسيين لوميير، وهما لويس وأوجست اللذان أطلقا الفيلم الأول فى التاريخ 1895 «خروج عمال المصانع»، وتتابع الأشقاء مثل الأخوين تافايانى إيطاليا ثم كوين أمريكا، وتكتشف أن الأخوين البلجيكيين جين ولوك اللذين يفصلهما ثلاث سنوات من العمر كأنهما يملكان روحًا واحدة. تابعت الحوار المنشور لهما واللقاء الصحفى الذى أعقب عرض الفيلم بالمسابقة، تشعر أن الكلمة أو المعنى الذى يقوله أحدهما يكمله الآخر، دائمًا الشريط السينمائى يشى بروح واحدة وتلمس تلك الروح منذ أن يقع اختيارهما على الفكرة والمنهج، وهما يطلان على الحياة ليلتقطا العادى، فحينما يكتبان السيناريو معًا تشعر أنهما يلتقطان العادى فى الحياة، والذى من الممكن أن يمر عليك دون أن تتوقف لتعيد تأمله من فرط تكراره لكنهما يضعانه فى إطار فنى فيمنح اللقطة العادية عمقًا وسحرًا وإبداعًا فتعبر المسافة من كونها إحدى مفردات الحياة لتمنح دلالة خاصة للحياة.
عندما سألوا ماريون كوتيار النجمة الفرنسية الحاصلة على الأوسكار عن فيلمها «الحياة الوردى» قبل 7 سنوات، والذى تناول حياة المطربة الأسطورة إديث بياف ومن بعدها انطلقت من السينما الفرنسية إلى العالم.
بالصدفة شاهدها الأخوان داردين فى لقاء عابر حتى جاءها الترشيح للدور، سألوها عن رأيها فى العمل مجددًا مع الأخوين بعد تجربة «يومان وليلة» فأجابت أنها بكت تأثرًا فى الأيام الأخيرة لتصوير الفيلم لأنها ستفتقد تلك الأجواء، ومثل أى فنان مصرى صاعد وأحيانًا راسخ عندما يسألونه عن العمل أمام عادل إمام يجيب «أوافق دون أن أقرأ السيناريو»، وتلك كانت بالفعل إجابة كوتيار مع ملاحظة الفارق بين دوافع الإجابتين.
ربما تجدها مبالغة فى المشاعر، ولك كل الحق فى ذلك، ولكن بالتأكيد الفنانة الفرنسية العالمية لا تحتاج إلى النفاق، ما دفعها إلى ذلك هو أن الأخوين بالفعل استطاعا أن يضعا ماريون فى أروع أداء من الممكن أن تحققه بعد حصولها على جائزة الأوسكار.
«يومان وليلة» يضع الزمن كقيد للشخصية وتبدأ أنت كمتلقٍّ فى سبر أغوارها، فهى أمامها فقط إجازة نهاية الأسبوع لتقنع زملاءها فى العمل بأغرب وأشق اقتراح، وهو أن يستغنى كل منهم عن مبلغ قدره ألف يورو، وهو مكافأة سيحصل عليها العمال بعد الإجازة، وفى المقابل تضمن أن تواصل عملها، وكل منهم يحلم بالمكافأة التى ينتظرها، وهى تُشكل بالنسبة له أملاً فى مواجهة مشكلة خاصة تواجهه، ونكتشف أن عددًا كبيرًا منهم يعملون فى العطلة من أجل زيادة دخلهم. إنهم 16 عاملاً يكفى أن تحصل على موافقة النصف، بطلة الفيلم التى تؤدى دور «ساندرا» تبدو على السطح قوية ومتماسكة ولكنها فى الحقيقة تعانى من اكتئاب يدفعها فى لحظة ضعف إلى الإقدام على الانتحار، ملامحها القوية على السطح تبدو متناقضة فى الحقيقة مع الضعف الكامن بداخلها، ورحلة الفيلم هى فى الحقيقة للانتصار على هذا الضعف.
هل تتذكرون فيلمًا للمخرج سيدنى لوميت «إثنا عشر رجلاً غاضبًا» حاصلاً على الأوسكار عام 1949؟ حيث يحصر المخرج أبطاله فى مساحة زمنية وهى قاعة المداولة فى المحكمة حيث يصبح قرار المحلفين هو الذى يمنح البراءة أو الإدانة. بالطبع الفيلم البريطانى بالإضافة إلى القيد الزمنى وضع أبطاله أيضًا داخل قيد المكان، فصار عليهم أن تتداخل مشاعرهم جميعًا فى نفس اللحظة، كما أن الصراع بين الشخصيات فى نفس اللحظة يحقق قدرًا من التنوع ويمنح الشريط مجالاً أكثر جاذبية وكأنها لقطة جماعية تُطل عليها كمتفرج لتتابع كل التباينات والتناقضات حتى تنتهى بأن رجلاً واحدًا استطاع إقناع الآخرين ببراءة المتهم، ولكن مع الأخوين داردين يبدو الأمر هذه المرة ليس لقطة جماعية تتابع فيها كل التناقضات ولكن أقرب إلى «ألبوم» تنتقل فيه فى لقطة قريبة لكل شخصية تتابعها على حدة، وتكتشفها من خلال بطلة الفيلم التى تحدد لنا كمشاهدين زاوية الرؤية، الشخصيات الثمانى يجمع بينها جميعًا أنهم مهمشون فى المجتمع، نتصفحها على حدة، كل منهم رغم اشتراكهم فى التعبير عن تلك الطبقة فإن لكل منهم حالته الخاصة. مثلاً الفتاة العربية التى تنتمى إلى المغرب العربى نرى كيف أن زوجها ينهرها بصوت مسموع لمجرد أنها وافقت على التضحية بالمكافأة حتى تحتفظ زميلتها بموقعها فى العمل.
كانت الكاميرا تلتقط تعبيرات ماريون كوتيار التى تقف على الحدود بين الأمل والإحباط وهى تنتقل بين شخصية وأخرى وتحرص على أن تبدو قوية فى كل لقاء، فهى لا تستجدى ولكنها فقط تطلب من الآخرين أن يشاركوها الأمل، فى جانب من الفيلم من الممكن أن تعتبر التنوع فى الشخصيات وتتابعها يضعه فى إطار غير مباشر بما يطلق عليه «سينما الطريق» حيث إن هناك تعددًا نفسيًّا وزمنيًّا وبصريًّا، وتنتقل البطلة مع زوجها فى سيارته، والرسالة المضمرة: هل يضحى الفقراء بمكافأة تأتى وربما لن تتكرر من أجل إنقاذ واحدة منهم؟ وتكتشف أن النصف المطلوب يوافق ولكن المتفرج لا يمكن أن يوجه إدانة لمن رفض أو تراجع لأنه أيضًا لا يمكن أن نتحمل إدانة من ينتظر المكافأة. ويأتى مشهد النهاية عندما يؤكد لها المسؤول عن العمل بأنه سوف يثبتها بعقد جديد بعد شهرين ويضحى بزميل آخر بمجرد قبولها المكافأة، ولكنها ترفض ويصفق لها الناس، كان الجمهور يصفق للبطلة وأدائها الرائع الذى يمهد لها الحصول على السعفة كأحسن ممثلة فى المهرجان، ويصفق أيضًا للشخصية الدرامية «ساندرا» التى رفضت أن تصبح ترسًا فى آلة تتحرك فى الحياة فى دائرة لا ترى سوى مصالحها ونفسها فقط، ومن أجل هذا المعنى صنع الأخوان داردين فيلمهما الرائع لينتظرا سعفة ثالثة بعد «روزيتا» 99 و«الطفل» 2005، فلم يسبق أن وصل أى مخرج طوال تاريخ المهرجان إلى السعفة الثالثة سوى المخرج البوسنى «أمير كوستاريكا»، فهل يفعلها «الأخوان»؟!
دقائق تصفيقًا لـ«ملح الأرض» فى «نظرة ما»
تحية إلى كاميرا الفوتوغرافيا
فى قسم نظرة ما شاهدت أكثر فترة زمنية من التصفيق امتدت نحو سبع دقائق متواصلة لفيلم «ملح الأرض» لفيم فيندر وجوليانو سالاجودا، الفيلم يعتمد فى جزء رئيسى منه على الصورة الفوتوغرافية التى تنتقل من مكان إلى آخر فى الكرة الأرضية من خلال كاميرا وثقت مآسى عديدة فى الكونغو والبرازيل ورواندا وإثيوبيا، إنها حماقات ارتكبها البشر أو الطبيعة أو العادات والتقاليد التى توارثوها، وتكتشف أيضًا أن هناك عالمًا آخر لا يزال يعيش بيننا وطقوسًا لطبيعة العلاقة بين الإنسان والآلهة والمرأة والرجل وأن تعدد الأزواج حق للمرأة فى عدد من الجماعات، الفيلم لا يمكن أن تتخيله وهو يصور طبقًا لاسكريبت معد سلفًا ولكن الصور الفوتغرافية التى التقطتها عين المخرجين من بين مئات الصور هى التى منحتها تلك الخصوصية، السينما تاريخيًّا صارت سينما عندما أحالت اللقطة الثابتة إلى الحركة كانت قبل دخول شريط الصوت 16 كادرًا فى الثانية صارت بعده 24، ولكن هذا الفيلم جعل المتفرج طرفًا فاعلاً، فهو يتأمل الصورة الثابتة ويضعها فى إطار خاص ويعانقها خياله، يعتمد الفيلم على ما تثيره تلك الصور الثابتة من تداعيات تختلف بالتأكيد بين متلقٍّ وآخر، فيمنحها الحياة. الفيلم مرشح بقوة لجائزة أفضل فيلم فى هذا القسم الذى تعلن نتائجه فى مساء الغد.
الدولة المصرية ومعاركها الصغيرة
فى وقت نشاهد فيه كل التجارب السينمائية هنا وهناك وتفتح أسواق «كان» السينمائية لكل الأفلام للعرض خارج الإطار الرسمى يأتى فصل آخر وجديد لفيلم «حلاوة روح» بقرار منع العرض الذى أصدرته لجنة التظلمات التابعة للمجلس الأعلى للثقافة والتى يبدو فيها أن الدولة أحكمت السيطرة على الفن ووضعته تحت قبضتها، هذا الفيلم انطلق بنا إلى أسوأ موقف، وهو أن يبدو للقارئ أن هناك من يدافع عن عمل فنى ردىء بينما الحقيقة أن الذائقة ترفض الرداءة ولكن المصادرة قضية أخرى. رفض المصادرة لا يعنى الدفاع عن الرداءة ولا منحها مشروعية ولكن حماية الفن من بطش الدولة التى عادة ما تتدثر بحماية الأخلاق. توقعت أن المعركة فى لجنة التظلمات ستصبح هى كيف نوافق على العرض وفى نفس الوقت نحفظ للدولة هيبتها، فلا يمكن أن ينتفض رئيس الوزراء المهندس إبراهيم محلب، ويعلن قرار المصادرة وإحالة الأمر مرة أخرى للرقابة على المصنفات الفنية ثم ينتهى المطاف بعرض الفيلم، سيصبح السؤال: لماذا انتفضت الدولة إذن ضد هيفاء وهبى و«حلاوة روح»؟ الحقيقة جعل الأمر يبدو فيه نوع من المزايدة على التوجه الرسمى ومع الأسف كان المثقفون كالعادة هم السلاح الذى لجأت إليه الدولة لتحقيق أغراضها. فى البداية أنشؤوا لجنة أطلقوا عليها حماية المجتمع وقررت اللجنة فى أول قرار لها عرض فيلم «بنت من دار السلام» مع حذف مشهد رقصة لشاكيرا لإثبات أنهم بالفعل مندوبو المجتمع فى الرقابة وأن العين ينبغى أن تطال شاكيرا وأخواتها، وهو ما أكدته أيضًا اللجنة الراسخة، وهى عندما تكمل الصورة لتحفظ ماء وجه الدولة فكانت المفاجأة التى ربما لم يتوقعها أحد وهى منع، وهو بالنسبة لى أقرؤه باعتباره رهانًا من الدولة على الدولة، فأثبتت السلطة الرقابية الأعلى أنها متحفظة ورجعية وتمهد للقمع الذى يقول دائمًا إن هدفه حماية المجتمع. نعم هناك غطاء من المجتمع قبول عام لمثل هذه القرارات، ولكن أى عمل فنى قادم من الممكن وتحت نفس الغطاء منعه من العرض لحماية المجتمع، وكم من الجرائم ترتكب باسمك أيها المجتمع!!