قبل أن تتفجر ثورة 25 يناير التى نشلتها جماعة إخوان الشياطين، ثم ثار الشعب واستعادها من بين أنيابها المسمومة فى 30 يونيو، كتبت كثيرا عن ظاهرة الحب اللى زايد، والشوق اللى قايد، فى قلوب قطعان مليارديرات الحكم الفاسد أيامها للفقراء والمعدمين، الذين أضحوا الأغلبية الساحقة من شعبنا، بينما كروش هؤلاء تتضخم بالنهب والسحت يوما بعد يوم. وفى إحدى مقالات هذا الزمان التى سطرها العبد لله تعليقا على كلمات كان قد هلفط بها المخلوع أفندى الأول، وقفت خصوصا أمام عبارة قالها هذا الأخير، وأكد فيها للمرة المليون أن حضرته «مع الفقراء ومحدودى الدخل فى سعيهم لحقهم فى الحياة الكريمة».. وبسبب الضجيج الهائل الذى يصفع مسامعنا منذ أكثر من ثلاث سنوات حول موضوع العدالة الاجتماعية والحياة الكريمة لشعبنا الغلبان، الذى يكاد أغلبه يموت من الجوع ويلتهم البؤس إنسانيته ويسحقها تماما، فقد قررت أن أعود لتلك السطور القديمة التى كنت بدأتها بإشارة لحكاية «الحياة الكريمة» وقلت: «.. يبدو أن مشكلة المواطن الفقير العدمان فى هذا البلد، ليس فقط أن الست (كريمة) تكرهه ولا تطيقه أصلا، وإنما أيضا هذا الاهتمام الزائد بحضرته وأن لا أحد فى حفنة الحكم الثرية الغنية المتخمة، يريد أن يتركه فى حاله ليموت جوعا، ويرحل فى هدوء وسلام، بل بالعكس، الكل يتحدث ويتكلم عنه ليل نهار، ويتمسح بملابسه وأسماله القذرة فى كل مناسبة أو دون أى مناسبة، حتى بات المرء يظن أننا أمام نوع مبتكر من الإدمان شاع بين الأغنياء والمتخمين بالسحت، أو لعلها (موضة) جديدة تفرض على مليارديرات الحكم وبشواته أن يكملوا أناقتهم وزينتهم برَش شوية كلام فارغ عن الفقر والفقراء فوق ألسنتهم، قبل أن تتلوى أمام الميكروفونات وعدسات التصوير. وربما (الإدمان) أو (الموضة) تلك هى سر هذا التناقض المفضوح بين كثرة الحديث عن الأغلبية الفقيرة، وكون هذه الأغلبية تزداد كل يوم غلبا وبؤسا وعدما وعددا أيضا، فالمسألة فى النهاية عرض وطلب، والشاهد أن الطلب على الفقراء والمعدمين من جانب أهل (البيزنس) المتحكمين بالعافية فى ماكينة صنع القرار السياسى وفبركته على مقاس (سبابيبهم) المزدهرة، أضحى طلبا زائدا ومتناميا بشدة، مما استلزم بالمقابل تعظيم ومضاعفة قدرة النظام على إنتاج البؤس والخراب بمعدلات متسارعة وطفرية، مما جعل مصر البلد تفخر وتزهو وتختال (بالخاء) علينا، بأن إنتاجنا المحلى من هذه السلعة أضحى يفيض ويتفوق على كل إنتاج آخر. والحقيقة أنا الآن حيران بين اعتماد التفسير آنف الذكر لظاهرة استفحال البؤس واليأس فى المجتمع، مع تفجر بُثور ودمامل الحب والعشق (اللفظى) للفقراء من جانب أسيادنا المنتفخين بالسلطة والثروة، وبين نظرية أكثر حذلقة وتعقيدا كنت مستقرا عليها، بعدما اشتققتها من نظرية أخرى عتيقة وشائعة (ومتهمة بتبرير التبعية والاستعمار) يتبناها أصحاب الفكر الاقتصادى الرأسمالى تدعى نظرية (التخصص وتقسيم العمل)، وهى تقوم على افتراض أن لكل بلد ميزة (مطلقة أو نسبية) فى سلعة من السلع يتفوق فيها على سائر البلدان، وبالتالى فمن الأفضل لهذا البلد أن لا يضيع وقته وجهده فى محاولة إنتاج أنواع أخرى، وإنما عليه أن يركز ويتخصص فى السلعة التى خلقه الله لكى يصنعها ويستورد الباقى من الدول التى خلقت بميزات وقدرات مختلفة. يعنى مثلا، كان يقال إن مصر ربنا خلقها بتزرع قطن (كذب طبعا فقد عرفت مصر القطن حديثا، وهى نسيته الآن تقريبا) لهذا لا بد تتنيل على عينها وتكتفى بزراعة القطن وتصديره خامًا، وتستورد القماش وأى منتجات صناعية أخرى تحتاج إليها من الدول التى حباها الله بالقدرة على الصناعة والتقدم.. وهكذا تمضى النظرية التى اقتبستها ورأيت فيها تفسيرا معقولا لتلك الظاهرة الطبيعية، التى تحتم على الفقراء والمعدمين أن يبقوا كذلك، بل إن الواجب المقدس يفرض عليهم مزيدا من الاجتهاد، لكى يتقنوا فقرهم أكثر ويحافظوا على ميزة (التخصص) فيه، عشان مصر أولا، وعشان حكامهم الأغنياء يلاقوا حد فقير يحبوه ويغنوا له علنا، ويجربوا فى أهله مواهبهم وتخصصهم فى صناعة البؤس»!!
جمال فهمي يكتب: لماذا «كريمة» لا تحب الفقراء؟!
مقالات -
جمال فهمي