.. قبل أيام انطلق مهرجان «كان» السينمائى الدولى ذائع الصيت، وبعيدًا عن مصمصة الشفاه المعتادة والتساؤلات المزمنة المملَّة والبليدة التى تُثار فى هذه المناسبة سنويًّا بشأن غياب «الحضور» المصرى والعربى عن فاعلياته (هل نحضر بسينما التفهاء والمهرجين؟!) فإن أحدًا ربما لن يتذكَّر تلك الحكاية الصاخبة التى جرت وقائعها فى مثل هذه الأيام قبل 46 عامًا (تحديدًا فى 19 مايو 1968) داخل أروقة قصر المؤتمرات الشهير بشارع «لاكروازيت» المطل على خليج «كان» جنوب فرنسا، حيث تُقام فاعليات المهرجان، وانتهت بانفراط عقده وإلغاء فاعلياته بعد 24 ساعة فقط من بدايتها.
هذه الحكاية سأرويها حالًا وأهديها إلى مَن يستحق من نجومنا وفنانينا، لأنها ببساطة تكشف كيف يكون «الحضور» الأهم للفنانين والمبدعين فى قلب قضايا الناس والمجتمع، وتجسِّد نموذجًا مناقضًا بالمرة لما يحدث عندنا، حيث غالبًا ما يكون «حضور» بعض أهل الفن فى القضايا والأحداث السياسية -حتى بعد ثورتين هائلتين وعظيمتين- مصبوغًا بلون النفاق الكابى.
فأما الحكاية الفرنسية فهى باختصار، بدأت عندما واكبت الدورة الـ22 لمهرجان «كان» عام 1968 ذروة أحداث ثورة الطلبة والشباب العارمة التى هزَّت بعنف بنيان المجتمع والدولة فى فرنسا، ومثَّلت تمرُّدًا هائلًا ومزدوجًا على نفوذ القوى المجتمعية المحافظة، والهيمنة اليمينية على مقاليد السياسة والاقتصاد فى البلاد.. وقد كان من قوة هذه الثورة أن أحداثها انتهت بأن رجل فرنسا التاريخى وقائد حرب تحريرها الطويلة من الاحتلال النازى الجنرال ديجول، غادر الحكم نهائيًّا واعتزل السياسة تمامًا!!
إذن على وقع هذه الأحداث المدوية جرى افتتاح مهرجان «كان» فى ذلك العام البعيد، ومن اللحظة الأولى بدا التوتر الشديد مخيّمًا على الأجواء، لا سيما أن بدء فاعليات المهرجان لم ينهِ الجدل والسجال الحار بين شباب السينمائيين الفرنسيين (من أمثال جان لوك جودار، وفرانسوا تروفو، وإريك رومر.. وغيرهم) وعدد ليس قليلًا من السينمائيين الأجانب، حول سؤال: هل ندع المهرجان يستمر ويمضى عاديًّا كأن شيئًا لم يكن؟ أم ننهيه ونوقفه أو نحوّله إلى منبر احتجاجى بحيث تقتصر أنشطته على عروض الأفلام التى تناقش الأوضاع السياسية وآفاق تحولاتها الثورية؟!
هذا الجدل أخذ يتَّسع ويشتعل حتى بلغ ذروته فى اليوم الثانى للمهرجان عندما أوقف السينمائيون الشباب عرض فيلم «شراب النعناع» للمخرج الإسبانى كارلوس ساورا، فى قاعة المهرجان الرئيسية، وذهبوا جميعًا ومعهم «ساورا» للاجتماع فى قاعة «جان كوكتو» المجاورة، حيث قرأ «تروفو» على الحضور بيانًا يدعو إلى التصدّى للسياسة الرسمية «المضرّة بالسينما الحرة»، وأعلن المخرج التشيكى المشهور «ميلوش فورمان» سحب فيلمه «إلى النار أيها الإطفائيون» من المهرجان تضامنًا مع الشباب الثائر، وفعل كلود ليلوش (الذى كان حصل فى الدورة السابقة على جائزة المهرجان الكبرى عن فيلمه «رجل وامرأة»)
الأمر نفسه، أما جودار فقد طالب بتحويل ما تبقَّى من المهرجان إلى ندوات سياسية، لكن سرعان ما تداعت الأحداث وتفاقمت بعدما دخل المخرج البارز وعضو لجنة التحكيم «رومان بولانسكى» القاعة، ليعلن أمام الجميع استقالته من اللجنة، وعند هذا الحد قرر المجتمعون نقل الاجتماع إلى القاعة الكبرى، تأكيدًا لسيطرتهم وتمرّدهم على الإدارة الرسمية للمهرجان، وبالفعل توجَّهوا يتبعهم المئات من حضور وجمهور المهرجان إلى القاعة التى احتلُّوها وسيطروا على منصّتها التى صعد عليها عضو آخر فى لجنة التحكيم هو «لويس مال»، معلنًا انسحابه، ثم كرَّت المسبحة وانسحبت أيضًا «مونيكا فيتى» ووراءها «تيرنس يونج».
وكان المشهد الأخير فى الحكاية عندما دخل بعض أعضاء إدارة المهرجان وانخرطوا فى مشاجرة بدنية مع السينمائيين الثائرين أسرعت بقرار إلغاء الدورة الـ22 للمهرجان وإغلاق أبواب قصره، تضامنًا مع ملايين الشباب والعمال المحتجين فى شوارع باريس وسائر المدن الفرنسية آنذاك!!