القصة التى ستقرؤها فى السطور التالية، ليست خيالية تمامًا، لكنها مجرد «قصة» والسلام.. يقول الراوى: .. صدقنى، لو كنت رأيته أيامها ما استطعت أبدا أن تتبيّن من ملامحه إن كان شابًّا أم كهلًا، فكل ما فى منظره يبدو ملتبسًا حائرًا لا يستقر على حال.. يعنى مثلًا، شعر رأسه كان وقتها خليطًا عشوائيًّا من بياض الشيب والسواد الغطيس، كما أن هيئته عمومًا رثة مهرجلة تشى بتواضع نشأته، بيْد أنه أحيانًا قد يعافر ويلوث هندامه بشىء من الأناقة الريفية. باختصار، لم يكن صاحبنا قادرًا على أن يثير أى اهتمام بوجوده واحتلاله مساحة من الفراغ، كما كان حضوره أضعف من أن يترك عند الناظر إليه أى انطباع.. بل لعل هذا الناظر لا يلحظه أصلًا، وكثيرًا ما حدث أن العابرين علينا ونحن جالسون فى المقهى البائس الذى كان يجمعنا آخر الليل ويتطفل صاحبنا عليه فى بعض الليالى.. أن هؤلاء لم يتمكنوا من ملاحظة وجوده ولا اهتموا بمعرفة اسمه وشغلته. كان هذا الشخص إذا داهمنا فى المقهى يجلس فى قلب اجتماعنا، ومع ذلك يغرق فى حال انزواء غامض كأنه مكسوف خجلان من شىء ما.. ربما تسرب إلى مسامعه خبر ما كان يتهامس به بعضنا بشأن علاقته بأجهزة الأمن، وتطوعه المتفانى فى خدمتها، وعدم تردده فى تنفيذ مهمات ومأموريات قذرة (هل هناك مهمات من هذا النوع «نظيفة»؟) ضد حتى الذين أغرقوه بأفضال وهدايا تثقل كاهله.. لكن ربما أيضًا لم يسمع شيئًا ولا خبرًا عن تلك الهمسات، غير أنه تعود أن يتصرف ويحضر وسط الناس بهذه الطريقة الملتبسة بسبب مقتضيات وظيفة «المخبر»، التى توسل بها «مثل كثيرين غيره»، واعتبرها سُلَّم الصعود الوحيد المتاح لأمثاله الفقراء من مواهب ومؤهلات العمل بمهنة الصحافة والكتابة وخلافه. وبمناسبة «ربما» التى تكررت مرتين فى الفقرة السابقة، فإن راوى هذه القصة يحكى وهو يكاد يموت من الضحك، الحادثة الآتية: ذات مساء رائع، كان صاحبنا المذكور أعلاه قد اقتحم قعدتنا على المقهى، وتبوَّأ مكانه المنزوى على حافتها، وبقى كعادته منطويًا مستترًا خلف صمته وغموضه وسكونه التام، غير أننا فجأة سمعناه ينطق بصوت خفيض مكررًا كلمة «ربما» بالذات.. كانت هذه الكلمة هى آخر ما نطق به واحد من المتكلمين الكبار فى القعدة، ورغم أن الجالسين جميعًا، بمن فيهم صاحب «ربما» الأصلى، توقفوا مندهشين أمام هذا الحدث الجلل، وصوبوا كلهم عيونهم نحو «الأخرس الدائم» الذى هتف للتو، إلا أنه لم يبدِ أى اكتراث بعاصفة الفضول التى تزمجر من حوله، وإنما راح بحماس محموم يدس يده بين طيات ملابسه ويستخرج «نوتة» صغيرة، ثم استلَّ قلمه الـ«فلوماستر» الرفيع الذى يزين دائمًا جيب قميصه، وأخذ يقلب قليلًا فى وريقات «النوتة» حتى استقر على إحداها، وكتب فيها حروف كلمة «ربما»، بينما هو ينطقها منفصلة «ر، ب، م، ا» بعناية فائقة وسعادة غامرة. ولأن التهور و«المعيلة الغلسة» كانا أيامها حاضرَين بقوة فى قعداتنا، فإن واحدًا من الرفاق المتهورين أطلق العنان لمعيلته وغلاسته التليدة، وفورًا رأيناه ينقضّ كالصقر على صاحبنا ويختطف من يده «النوتة» الثمينة، قبل أن ينتحى بها جانبًا ويقرأ علينا بعضًا من المفردات والكلمات المسجلة فيها، وأسمعنا تحفًا لفظية قيّمة ونادرة جدًّا من نوع، «ريثما»، و«حيثما»، و«حيث إن»، و«قلما»، و«كلما»، إضافة إلى عبارات ظنها كاتبها شديدة الشياكة والفخامة مثل: «أيادٍ كثيرة فى الإناء» و«لا تثريب عليه».. إلخ!! غير أن صديقنا الغلس لم يشأ أن يتوقف بغلاسته عند هذا الحد، وإنما تمادى، وتوقف خصوصًا أمام كلمة «لا تثريب» فهتف وهو يرسم على وجهه ملامح الجد والصرامة، قائلا: على فكرة يا فلان «تثريب» بالثاء لا بالسين، فـ«التسريب» يا عزيزى أمر يختص به السادة «السباكين» فحسب، أما الصحفيون والكتبة الكبار أمثال حضرتك، فلا لوم عليهم ولا «تثريب» أبدًا، لو اشتغلوا مخبرين علينا وعلى أهالينا!! انتهت «القصة» التى ليست خيالية تمامًا
جمال فهمي يكتب: حادثة «ربما»..
مقالات -
جمال فهمي