بين مهرجان «كان» ومهرجان «القاهرة» حب من طرف واحد، والحقيقة هى أننا لسنا فقط الذى نطارده ونلهث وراءه، لكن كل المهرجانات العربية تعتبر «كان» هو قبلتها، فتذهب بكوادرها إلى هناك، وتقيم الأجنحة، وتعلق الزينات، وترفع الرايات، وتبدأ فى الاختيار بين كل الأفلام المعروضة ما يروق لها، وكأنه مغارة «على بابا»، بها زمرد وياقوت ومرجان، وتحصل على ما تريد ما دامت تعرف كلمة السر «افتح يا سمسم»، تلك هى الرحلة السنوية «واللى ما يشترى يتفرج». تابعتُ «كان» قرابة ربع قرن، وكان الكاتب الكبير الراحل سعد الدين وهبة باعتباره رئيسا لمهرجان القاهرة، يحرص كل عام على الوجود فى الفاعليات، وهو ما فعله كل الرؤساء من بعده بداية من حسين فهمى، بل أتذكر أنه قد تردد فى مرحلة ما بعد استقالة حسين فهمى اسم الكاتب الكبير محمد سلماوى كرئيس للمهرجان، فما كان منه سوى أن سافر فى ذلك العام إلى «كان»، لكن يبدو أن فاروق حسنى فى اللحظات الأخيرة، ولا أدرى الأسباب، غيّر رأيه، ومن وقتها لم يعد سلماوى أشاهده فى «كان». من بين المفارقات العجيبة أن كل المهرجانات تسعى لكى تحظى بالعرض الأول ولذة الاكتشاف هى التى تحسب للقائمين على المهرجان، بينما أغلب مهرجاناتنا العربية تنتقى من بعد «كان»، وتعتبره «فرز أول» لها، وبعدها تبدأ الاختيار، وربما تضيف شيئا من «برلين» أو «فينسيا» وغيرهما، لكن المصدر الأساسى هو «كان»، فهو موسم صيد الأفلام، وأستطيع أن أروى لكم عن 23 دورة كنت فيها شاهد عيان على ما يجرى، وبعد العودة يعقد سعد الدين وهبة اجتماعا، ونختار الأفلام التى نرشحها لـ«القاهرة»، دائما كان سعد يستطيع إقناع غرفة صناعة السينما وعدد من أصحاب الشركات الخاصة بتحمل نفقات الجناح المصرى، الذى يحتل مساحة على شاطئ الريفييرا تضيق أو تتسع تبعا للميزانية المرصودة. وكان الجناح المصرى هذه الدورة هو مثار جدل أثير قبل نحو شهرين، حيث تردد السؤال فى أكثر من اجتماع عن الجناح الذى تُقيمه مصر، وكانت وزارة السياحة مع عدد من الرعاة أقاموا الجناح، واستطاعت نائبة رئيس مهرجان القاهرة السابقة سهير عبد القادر أن تؤجره باسم مصر، وكان السؤال، الذى وصل إلى حد تهديد رئيس مهرجان القاهرة الحالى الناقد سمير فريد بالاستقالة من منصبه احتجاجا، كيف يقام جناح باسم مصر ولا يتولاه رئيس المهرجان، وكان رأيى ولا يزال أن وزارة السياحة من حقها أن تفعل ذلك، هى كثيرا ما تحملت النفقات فى السنوات الأخيرة، ولو انتحلت سهير عبد القادر صفة رئيس مهرجان لعرضت نفسها للمساءلة القانونية، ولا أعتقد أن أى إنسان عاقل يرتكب مثل هذه الجريمة، ويقضى فى هذه الحالة بضع سنوات من عمره فى سجن القناطر الخيرية، وأضفت عندما يرفرف علم مصر على شاطئ الريفييرا نضرب له تعظيم سلام لا يعنينى من الذى يرفعه، كان لى ملاحظات عديدة على مهرجان القاهرة فى سنواته الأخيرة واعتذرت عن عدم الانضمام إلى المكتب الفنى بمهرجان القاهرة فى الدورة التى أقيمت فى 2012 برئاسة عزت أبو عوف، وكانت نائبة الرئيس هى سهير عبد القادر، كما اعتذرت أيضا هذه الدورة من مهرجان القاهرة عن عدم الانضمام إلى لجنة المشاهدة والسفر إلى «كان» على حساب المهرجان، لأن قناعاتى هى أن المجتمع المدنى هو الذى يقيم المهرجانات، ولم أكن أنا وحدى الذى أعلن ذلك، بل ربما سبقنى إليه الناقد سمير فريد، لكنه تخلى مؤخرا وتماما عن كل هذا الطموح، بل المفاجأة هى أن مهرجان القاهرة، الذى كان يقام منذ إنشائه عام 1976 «تحت رعاية» وزارة الثقافة أصبحت «تنظمه» هذه الدورة وزارة الثقافة، والفارق شاسع بين «تحت رعاية الوزارة» وبين «تنظمه الوزارة»، ولا أدرى كيف نستسلم فى لمح البصر ونتناقض مع أحلامنا لمجرد أن هناك معوقات. سمير فريد حريص على رئاسة المهرجان، وهذا من حقه، لكنه فى سبيل تحقيق ذلك اكتشف أن الدولة طوال السنوات الأخيرة (أكثر من ربع قرن) كانت تفضل العمل فى المهرجان من خلال وجود سهير عبد القادر فى منصب قيادى، وكانت هى حلقة الوصل بين الوزارة والمهرجان، ولهذا وجد أنه من المستحيل أن يبتعد عن أحضان وزارة الثقافة، تردد وأظنه صحيحا أن الدولة أوكلت إليها (أقصد سهير عبد القادر) منصب مستشار وطنى لشؤون المهرجانات، وكان الغضب بين عدد من السينمائيين، ولم يصرح الوزير حتى الآن بذلك، بل كذب الخبر فى أكثر من جريدة رغم أنه صحيح، فهو الذى تقدم باسمها إلى رئيس الوزراء فى عهد الببلاوى، ولا يزال القرار ساريا فى عهد محلب. أتصور أن معادلة سهير عبد القادر، أقصد وجودها داخل المعادلة، هو الذى دفع سمير فريد مسرعا إلى أحضان الدولة، فلقد عاش كابوس الخوف من اصطدامه بكبار الموظفين فى الوزارة، ويجد نفسه ومهرجانه فى مهب الريح، والدولة تلوح ببديل جاهز لو هدد بالاستقالة، وهو سهير، خصوصا أنه لم يبذل أى جهد فى العثور على رعاة خارج الوزارة، وأصبح جهده مقصورا على مطالبة الدولة بزيادة الدعم، على اعتبار أنه مهرجان الدولة، أعلم بالتأكيد أن لدينا معوقات إدارية واجهت إدارة المهرجان، فقرر رئيس المهرجان الاستعانة بكل قطاعات وزارة الثقافة ليصبح جزءا من الدولة، بل إن اللجنة العليا للمهرجان يرأسها وزير الثقافة شخصيا، ليقول للوزارة هذا مهرجانكم، وليس مهرجان السينمائيين. رئيس المهرجان الحالى جاء لمنصبه بناء على ترشيح عدد كبير من المعتصمين فى وزارة الثقافة قبل وفى أثناء ثورة 30 يونيو، وكان مطلبهم هو الاستقلال عن الوزارة، ومنح الفرصة للمجتمع المدنى، وتنازلوا بعدها عن المبدأ، لأنهم أرادوا فى الحقيقة تغيير الشخص لا المنظومة، الغريب فى الأمر أن الحلم يتقلص، وصار منتهى أمل رئيس المهرجان الحالى أن يصبح مهرجان «القاهرة» مثل مهرجان «دمشق»، الذى تقيمه وزارة الثقافة هناك.. إنه يخشى مشقة الصدام مع الدولة، فقرر أن يدخل بكل عمق إلى أحضان الدولة ليصبح مهرجانها «وهى حرة فيه تفرده أو تتنيه»!
طارق الشناوي يكتب: لماذا تقلصت أحلام مهرجان القاهرة؟
مقالات -
طارق الشناوي