مذيعان جعلا الحياة مشوقة فى عينى طفل وحيد يعيش فى مدينة نائية، مصطفى محمود وحامد جوهر (مع حفظ الألقاب)، مصطفى محمود كان رجلًا لا ينظر إلى الكاميرا، يبدو متوحدًا بروح مبتسمة مندهشة تحرضك على التحليق، كانت الموسيقى المميزة لبرنامجه (مقطوعة الناى التى يلعبها محمود عفت) موسيقى حزينة حزنَ الأنبياء، كانت تثير فى قلبى مشاعر الخوف، لكنه ليس خوف أيام الامتحانات، بل خوف العشاق على قصة حبهم.
كانت حلقات «العِلم والإيمان» فجوة فى جدار الثوابت المحيطة بعقلى كطفل، كانت المادة الفيلمية التى يذيعها مصحوبة بتعليقاته الساخرة المتعجبة جذابة أضعاف جاذبية جريندايزر والرجل الأخضر ومارك المخلوق البرمائى، كان مصطفى محمود أول من عرفنى على وجه آخر لله بعيدًا عن وجه معاقبة تاركى الصلاة أمثالى، ومكافأة المصلين أمثال ابن خالتى، عرفنى مصطفى محمود على وجه غامض وساحر لا تملك حياله سوى التصفيق الحاد والانحناء احترامًا، شىء ما بداخلى كان يحرضنى للانحناء لله بعد كل حلقة من «العِلم والإيمان»، وهكذا تعلمت الصلاة.
لا أعرف ما الذى جعلنى مغرمًا بحامد جوهر، وبرنامج «عالم البحار» غرامًا يثير الكوميديا فى عائلتى، ربما كنت أرى فى ذقنه البيضاء تعويضًا عن وفاة جدى، ربما لأنه كان يحدثنى عن البحار التى حرمتنى منها النشأة فى الصعيد، ربما لأنه كان يعرض أفلامًا عن (كلب البحر) حيوانى المفضل.. الحيوان الوحيد الذى تمنيت اقتناءه، ربما بسبب خامة صوته العميقة القادمة، على رأى حليم، من أعماق البحر.
كان صوته فاتنًا بكل ما فيه من هدوء وجاذبية ووقار يليق بقبطان معتزل، كنت أقلد صوته، فأضحِك أمى، لكن عندما شاهدنا مسرحية «العيال كبرت» وسمعنا سعيد صالح يقلده رأيت على وجه أمى ملامح الامتعاض، فى أول زيارة لى للإسكندرية كنت أتوغل فى الماء بحثًا عن الكائنات التى عرفنى عليها حامد جوهر، لكننى عدت محبطًا إلى مدينتى، حيث لم ألتق إلا القواقع ولسعات قنديل البحر، فى نهاية هذا الصيف توقف برنامج «عالم البحار» نهائيًّا، وبعدها بقليل توفى د.حامد، وغاب عن ذاكرتى.
بعدها بسنوات زرت شرم الشيخ فى منتصف الشتاء، ومارست السنورلكنج (الطفو الآمن فوق سطح الماء الشفاف)، وشاهدت عالم الكائنات البحرية الملونة لأول مرة فى حياتى، عدت إلى الفندق متعبًا، وقبل النوم سحبت جريدة «الأهرام» وسيجارة، ودخلت الحمام قرأت فى (حظك اليوم): «اليوم تلتقى أصدقاء قدامى»، قلت لنفسى أصدقاء قدامى مين وأنا داخل أنام؟ أسفلها بقليل فى زاوية (حدث فى مثل هذا اليوم) كان السطر الأول يقول «وفاة د.حامد جوهر رائد علوم البحار».