ما زلت أذكرُ سطح نقابة الصحفيين فى مبناها القديم فى ذات العنوان الحالى، لكنه كان بتصميم المهندس الفذّ سيد كريم، وكان صغيرًا أنيقًا إنسانيًّا وبديعًا «ربما هو الحنين فأعتذر» بحديقة كبرتْ فيها أحلامنا وآمالنا، وكنا فى ليل صيف القاهرة، ووقف حمدين صباحى مبتسمًا وسعيدًا وهو يقدم لنا «كان هذا منذ خمسة وعشرين عامًا» طفليه سلمى ومحمد، ليغنيا لنا «مجموعة الصحبة والأصدقاء» أغنية بصوتيهما، لعلها كانت أغانى عبد الحليم حافظ الوطنية ليلتها، وأغانى لنجم والشيخ إمام، فقد كنا نصفق كأنما نفرح بقدرتنا على أن ننسخ أحلامنا فى أجيال قادمة، لكنه كان حمدين الفخور بفن طفليه «سلمى بعد تجربة مع الغناء استقرت على أن تكون مذيعة، ومحمد احترف الإخراج السينمائى». حمدين نفسه بعد ذلك الذى يقف ممثلًا، وهو السياسى والنائب البرلمانى المعروف، دونما ذرة من تردد، بل باندفاع المحب بفيلم يعمل ابنه مساعدًا للإخراج فيه، هذا مفتاح مهم لفهم هذا الرجل، إنه فنان، أظن أن له محاولات فى الرسم قديمة، لكننى متأكد أنه كتب قصائد، وكان يحب أن يقدم نفسه لفترة شاعرًا «ما قرأته يؤكد أننا أمام مشاعر شاعر، لا أشعار شاعر»، لكن ماذا يقول هذا لك؟ يقول إننا أمام شخصية دخلت السياسة من باب الحلم، وقد بذل حمدين جهدًا لكى لا يخرج من الحلم من باب السياسة، لم يكن فى يوم من الأيام متشددًا ولا متطرفًا فى أى شىء، وكان كثير ممن حوله متشددين ومتطرفين جدًّا فى حبه والإيمان به. لم يكُن يقول كلامًا جديدًا، لكنه كان يقول كلامًا جميلًا. كان توفيقيًّا لا استقطابيًّا، ويحاول دائما إيجاد مساحة للتوافق حتى لو اختلقها، ولا يحب أن يخسر أحدًا حتى خصومه، ولا يملك أن يكره أحدًا. لديه طاقة حب تجعل قلبه مرفقًا عامًّا يتمشَّى فيه الناس كأنهم على شط النيل، ربما لا يكره أحدًا، لأنه يريد أن يحب الجميع أو لأنه لا يهتم كثيرًا بمن يكرهه، بل لعله لا يصدق أصلًا أن أحدًا يكرهه، لهذا لا تجده جرَّح حتى مَن سجنوه، ولا تجده قطَع شعرة مع أحد حتى مَن عذَّبوه، ولا تجده خاصمَ أحدًا حتى مَن طعنوه، ولا تجده قاطعَ أحدًا حتى مَن آذوه.
إبراهيم عيسى يكتب: وطنٌ فوق السطح
مقالات -
إبراهيم عيسى