لشاعر العرب العظيم حبيب بن أوس بن الحارث الطائى المكنى بـ«أبى تمام» (803 ـ 845م) بيت أبدعه ذات يوم فذاعت شهرته فورًا وعبرت كل حدود الأزمان والعصور حتى أضحى أكثر صيتًا وأقوى حضورًا ربما من أبى تمام نفسه.
ذلك البيت هو عنوان وفاتحة قصيدة فخر رائعة تمجد الحرب العادلة وتخلد ذكرى انتصار الخليفة العباسى المعتصم بالله فى معركة غزو «عمورية» مسقط رأس إمبراطور الرومان «تيوفل»، ردًّا على عدوان وحشى ارتكبته جيوش هذا الأخير فى بلدة «زبطرة» العربية، وتلبية لنداء الاستغاثة الأشهر فى تاريخنا، ذلك الذى أطلقته امرأة مجهولة هتفت بحرقة فى طرقات البلدة المنكوبة «وامعتصماه»، فحشد الخليفة قواته لنصرتها والانتقام لأهلها وأهله متجاهلاً وضاربًا الصفح عن تحذيرات المنجمين والمشعوذين من أنه إذا ما دخل المعركة ضد الروم فسينهزم، لكن المعتصم انتصر نصرًا عزيزًا مؤزرًا، فأنشد أبو تمام قائلاً بحماس وفخر:
السيف أصدق إنباء من الكتبِ
فى حده الحَدُّ بين الجد واللَعِبِ
ثم أكمل مؤكدًا:
بِيض الصفائح (السيوف) لا سود الصحائف فى
متونهن جلاء الشكِّ والرِّيَبِ
وتابع فى موضع آخر:
فتح الفتوح تعالى أن يحيط به
نظم من الشعر أو نثر من الخُطبِ
فتح تفتح أبواب السماء له
وتبرز الأرض فى أثوابها القشبِ
و.. اليوم لو كان هذا الشاعر الفحل معنا يشاهد ويكابد ما نكابده من آيات الخسة والسفالة والبلطجة والإرهاب الأسود ويتلقى مثلنا أخبار هذه الحرب القذرة التى تشنها علينا عصابة «إخوان الشياطين» وأتباعها من القتلة وقُطاع الطرق.. ثم ماذا لو كان أبو تمام سمع بتلك الفتوى الهمجية الواطية التى أفتى بها قبل أيام هذا التافه الجهول مفتى «الشياطين» داعيًا فيها قطعان عصابته للجهاد التخريبى ضد مصر دولة ومجتمعًا وشعبًا، بماذا كان سينشد يا ترى؟! أتراه كان سيقول مثلا:
الخرس أفضل وأنظف من الفحشِ
فلا اجتراء على الحق بالكذبِ
ظلام العقول وسواد القلوب لابيضها
فى بشاعتها يَلوح من جهنم اللهبِ
فواحش وجنايات لا يحيط بها
نظم من الشعرِ أو نثر من الخطبِ
إجرام وعربدات هز السماء هولها
والأرض كادت تميد من غضبِ
و.. بعد، فإن ظنى أن أبا تمام لو كان ساء حظه واسود قدره وعاش بيننا هذه الأيام لكان تخلى عن روحه المتوثبة وطبعه الميال إلى التفاخر والحماس، واستبد به قنوط وقرف عظيمان، وربما استعار فى إبداعه الشعرى بعضًا من تشاؤم وسوداوية مزاج أبى العلاء المعرى الذى أنشد متفلسفًا:
عمى العين يتلوه عمى الدين والهدى
فليلتى القصوى ثلاث ليالى
ومن بعد ختم قائلاً:
وهون أرزاء الحوادث أننى
وحيد أعانيها بغير عيالِ
فدَعنى وأهوالاً أمارس ضنكها
وإياك عنى لاتقف بحيالى
وهو الذى قال أيضًا:
وكم اشتكت أشفار عين سهدها
وشفاؤها مما ألمّ شفار
ولطالما صابرت ليلاً عاتمًا
فمتى يكون الصبح والإسفار؟!
.. قريبًا، إن شاء الله، يا أبا العلاء.
وصباح الخير