أثار عرض فيلم «ماء الفضة» السورى للمخرجين أسامة محمد ووئام سيماف بدرخان، سؤالا عن العلاقة بين الدولة التى يقام المهرجان على أرضها وبين التوجه السياسى الرسمى للدولة. هل المهرجان يعبر حقيقة عن الدولة سياسيا بكل تفاصيلها، أم أن هذه هى قناعات القائمين عليه وقد تتوافق مرة وقد تختلف أخرى، أو تصل حتى إلى حدود التناقض؟ المؤكد أن الفيلم يعبر عن قناعات المهرجان حتى لو وجدت أن الموقف الرسمى الفرنسى تجاه سوريا متطابق مع موقف المهرجان، حيث إن فرنسا الدولة ترى ولا تزال أن إزاحة الأسد أمر لا نقاش فيه، بينما فى بعض الدول العربية رسميا تغيرت تلك النظرة الإيجابية لثورات الربيع، بل صار البعض لديه تحفظ عليها، واعتبروها مجرد مؤامرات على العالم العربى. الفيلم السورى يدين ممارسات بشار الأسد، ويعتبر أن صفحته ملطخة بالدماء ولا يمكن التسامح معه، وهو ما ندركه، فلقد كان هناك دوافع لإسقاط النظام القمعى والطائفى، وكان هذا مفهوما بالطبع مع بدايات الثورة السورية فى 15 مارس، ولكن الآن مع كل هذه المتغيرات على أرض الواقع، والملايين من المشردين السوريين على كل الحدود التركية واللبنانية والأردنية والعراقية، فإن السؤال صار وماذا بعد؟ نعم بشار هو القاتل والثورة أسقطته هو ونظامه، إلا أنه رفع فى وجه الشعب سلاح الجيش الذى يدين له بالولاء. الواقع تغير وأصبح السؤال المهم هو ما الذى يتبقى الآن من سوريا، وهو ما يبدو أن الفيلم تعمد أن لا يطرحه.
العلاقة بين الفن والسياسة فى المهرجانات السينمائية تفرض نفسها، صحيح أن مهرجانا كبيرا وعريقا مثل «كان» له هيئته المستقلة عن الدولة، ولكن الصحيح أيضا أنه يتلقى دعما ماديا وأدبيا من الدولة، فهل هو صوتها ويعبر عنها؟ وليس فقط سوريا، ولكن أيضا فى علاقة فرنسا مثلا بإيران، حيث يحرص المهرجان دائما على عرض الأفلام التى تنادى بالحرية وأصبح مخرجوها مهددين بالسجن.
المؤكد أن الانحياز لقيمة العدل هو الذى يفرض نفسه، وعلى كل الأصعدة، ولهذا مثلا وقبل نحو أربعة أعوام شاهدت بالمهرجان مظاهرات تحيط قصر مهرجان كان، تطالب بإبعاد الفيلم الجزائرى «الخارجون على القانون» لرشيد بو شارب، الذى يدين المذبحة التى قام بها المحتل الفرنسى ضد الجزائريين فى منتصف الأربعينيات قمعا للمتظاهرين، الذين نادوا بالاستقلال، وراح ضحيتها آلاف منهم، وكانت نقطة انطلاق رئيسية لتكوين جبهة التحرر الوطنى، التى رفعت السلاح ضد الاستعمار الفرنسى، عندما وقفت عاجزة كل الوسائل الدبلوماسية. لم تستجب إدارة المهرجان وقتها لتلك المطالبات التى لم تتوقف، حيث رفعت الأعلام الفرنسية، بينما شاهدت أيضا عددا من الجزائريين يحملون علم بلدهم، وفى النهاية عرض الفيلم، وهو بالمناسبة شاركت فى إنتاجه أيضا شركة فرنسية، أى أنه يحمل الجنسية الفرنسية، بالإضافة إلى الجزائرية، لم يسمح المهرجان بعرض الفيلم، لأنه فقط يناصر العدل، لأن مفهوم العدل يظل نسبيا فى هذه الحالة، الأهم هو أن هناك لغة سينمائية فرضت نفسها، قد تنحاز إلى فيلم فكريا، ولكن فيصل العرض بالمهرجان يرتبط قبل كل ذلك باللغة السينمائية، خصوصا فى العروض الرسمية، أما العرض خارج الحدود الرسمية فإنه من الممكن فى تلك الحالة التنازل عن القيمة الفنية، مثلما حدث فى أعقاب ثورة 25 يناير، أن عرض المهرجان خارج الإطار الرسمى أفلاما مصرية وتونسية وليبية ويمنية، لمجرد تأكيد الموقف الفكرى بالانحياز إلى الثورات.
«فيلم ماء الفضة» ينحاز إلى الثورة والثوار، بينما لا يزال الأسد يرفع السلاح ويهدد بالكيماوى، كما أنه لم يتوقف عن استخدام سلاح السينما، بالفعل هناك أفلام لعبت دورا هناك وبقوة فى دعم النظام المتهاوى، وهناك فضائيات تلعب نفس الدور المشبوه، ولا يمكن أن نتغافل عنها، وأنتجت الدولة والقطاع الخاص الموالى لها فيلم «مريم» للمخرج باسل الخطيب، والرسالة المضمرة التى يحرص عليها هى أن الجيش السورى النظامى هو الوحيد القادر على حفظ النظام، صحيح أن الفيلم لم يقل كلمة واحدة لمؤازرة الأسد مباشرة، وذلك حتى يضمن تمريره، إلا أن الكل يعلم فى نهاية المطاف أن المقصود هو أن يتماهى الناس مع الجيش المنقذ، وينظر للثورة بعين الريبة، ويجب أن نضع فى المعادلة أن مخرج «مريم» ينتمى إلى الطائفة العلوية التى يرى بشار أنها تدافع عن بقائها عندما تدافع عن بقائه، ولكن لا يمكن أن نعتبر أن كل الطائفة تقف مع بشار، هناك من يقفز فوق كل ذلك ويضع الوطن فى المقدمة، وقبل أى اعتبار آخر مثل مخرج فيلم «ماء الفضة» أسامة محمد، فهو من نفس الطائفة، وكان قبل الثورة معاديا للنظام، ولهذا فإن الدولة السورية ظلت حريصة على إبعاده وكانت تطارد أفلامه وتمنع عرضها، مثل «نجوم النهار»، الذى حصل على أكثر من جائزة عالمية قبل 25 عاما، ولكنه ممنوع من العرض الجماهيرى فى سوريا. أسامة كان صوته الأعلى فى أثناء الثورة حتى اضطر إلى مغادرة البلاد، لأنه مطلوب من قبل الأمن، ولكنه اختار الانحياز للعدالة وللشعب، وفيلمه الأخير هو امتداد لكل ذلك الذى اعتمد فيه على مشاهد توثيقية للتعذيب على أيدى وأحذية ورصاص الجيش السورى، كان المقصود هو إذلال المعارضين بالاعتداء الجنسى عليهم، وحثهم على تقبيل أحذية جنود الجيش، كان المخرج قادرا على أن يجعلك تتعاطف معهم، فهم ليسوا خانعين ولكنهم يواجهون قتلة وسفاحين، تلك هى القضية الشائكة، وأيضا ظل الأمر مرتبطا ولا أظنه عشوائيا بالمخرجة الكردية وئام، التى شاركته إخراج الفيلم، هى لا تزال فى سوريا وهو فى باريس، ومن المعروف أن الأكراد دائما ما كان صوتهم فى سوريا ممنوعا، وزيهم التقليدى ممنوعا ولغتهم ممنوعة، بالتأكيد أن اختيار الاسم «ماء الفضة» التى تعنى «سيماف» بالكردية ليس عشوائيا، فهو يريد أن يبعث رسالة تقول إن الثورة القادمة لن تتجاهل أبدا حقوق الأكراد فى إعلان هويتهم بكل تفاصيلها، وحرص المخرجان على أن تتخلل الأحداث كلمات كردية، إلا أنه يستعيد أكثر من مرة اللقطات التسجيلية ربما عشرات المرات نشاهد نفس اللقطة، أعلم بالطبع أن الجراح غائرة، ولكنى أعلم أيضا أن للسينما قانونا، وكان ينبغى اختصار وتكثيف بعض تلك المشاهد، وأن الواقع على الأرض تغير وصار بحاجة إلى أفلام توثيقية بقدر ما تدين الأسد تزرع الأمل فى الغد القادم لسوريا.
ويبقى سؤال البدايات عن علاقة سياسة الدولة بالمهرجانات، وهو سؤال سيطرح نفسه بقوة على مهرجان القاهرة فى الدورة القادمة، التى لم تعد الدولة المصرية لأول مرة تقيم المهرجان تحت رعايتها، ولكنها هى التى أيضا تنظمه ليصبح وجهها السياسى وتلك هى المشكلة.