المخرج الموريتانى عبد الرحمن سيساكو يرفع اسم العرب!
قبل لحظات من كتابة هذه الكلمة، كنت قد شاهدت الفيلم السورى «ماء الفضة»، الذى يتوجه مباشرة لفضح ممارسات بشار الأسد، ويؤازر مخرجاه أسامة محمد ووئام سيماف بدرخان، الثورة والثوار. يحمل الفيلم وثائق لا تحتمل التشكيك، كيف ولا يزال الجيش السورى يسعى إلى قتل روح الثورة والتنكيل بالمعارضة واغتيال الأطفال، ويجبر الشعب على أن يركع لبشار على اعتبار أنه الإله. الفيلم يحتاج إلى مقال آخر لنذوب أكثر فى تفاصيله، حيث عرض رسميا بالمهرجان، ولكن خارج المسابقة. أما الفيلم العربى المعروض فى المسابقة ويتنافس على الجائزة فهو «تيمبوكتو» الموريتانى للمخرج عبد الرحمن سيساكو.
أصبحنا فى السنوات الأخيرة نشعر بأن إفريقيا السوداء هى عمقنا الحقيقى، برغم أننا كثيرا ما نسينا أو تجاهلنا ذلك. ولو أضفت ذلك إلى انتماء بعض هذه الدول إلى الروح والدماء العربية، لأصبح الأمر متعلقا هذه المرة بحالة من الاعتزاز. فلقد كانت موريتانيا هى الممثل الحقيقى للسينما العربية فى تلك الدورة، برغم أن المعلومات الأولى كانت تنفى عن فيلم «تيمبوكتو» جنسيته العربية، على أساس أنه إنتاج فرنسى خالص، والفيلم يحصل على جنسيته من الإنتاج. إلا أنه بالعودة إلى الكتالوج الرسمى للمهرجان، ثبت أن موريتانيا شريك أصلى مع فرنسا، حيث إنه لا يكفى أن تدور الأحداث فى موريتانيا، وأن المخرج عبد الرحمن سيساكو يحمل جنسيتها ليصبح الفيلم موريتانيا، الشرط الأساسى للحصول على الجنسية هو الإنتاج.
تمنيت أن أصفق بعد هذا المشهد الذى قدمه المخرج بإبداع وتألق، عندما منعت الشرطة الإسلامية فى «تيمبوكتو» وهى إحدى المقاطعات فى موريتانيا، التى من الواضح أن الدولة لا تملك السيطرة عليها، حيث إن الشرطة الإسلامية هى التى تدير وتحكم تحت غطاء كاذب وهو القرآن، ولهذا فإن من بين الممنوعات لعب كرة القدم، بحجة أن الكرة حرام شرعا، فقرر الشباب فى تلك القرية الفقيرة أن يواجهوا القرار بتحدٍّ لا يمكن لأحد أن يقهره وهو الخيال، بعد أن صار الواقع عاجزا عن المقاومة، وهكذا وضعوا قانونا آخر وهو لعب الكرة دون كرة. وكانوا يمارسون اللعبة بمهارة، عليك أنت كمشاهد أن تتخيل معهم كيف تنتقل الكرة التى لا نراها من قدم إلى أخرى حتى تستقر فى نهاية الأمر فى الشبكة، ويصفقون ويهللون للفائز، وهكذا انتصر الفن على أعداء الحياة، الذين أرادوا اغتيالها. ذكرنى هذا المشهد بالمخرج الفرنسى فرانسوا تريفو فى نهاية فيلمه «451 فهرنهيت»، وهى درجة حرارة إحراق الكتب، عندما قررت الدولة القمعية أن تحرق التراث الإنسانى الأدبى، فتحول البشر فى نهاية الأمر، كل منهم إلى كتاب يحفظه ليسلمه بعدها إلى الجيل الثانى، كأنهم يحفظون الأمانة من التلوث والعبث وفقدان الذاكرة، الذى أرادته الدولة الأمنية، على أساس أن الفكر هو الذى يحرر البشر من القمع والعنف، الذى تمارسه تلك الدولة، وأنه كما أن الإنسان غريزيا يعمل على حفظ النوع، فإنه دون أن يقصد أيضا يجد نفسه يحافظ على هويته بالتراث العالمى، ليصبح أمامنا إنسان صار «ماكبث» لوليم شكسبير، وهذا صار مثلا «الحرب والسلام» لتولوستوى، وثالث «البؤساء» لفيكتور هيجو. وهكذا دائما يأتى الخيال كسلاح باتر ليحافظ الإنسان من خلاله على هويته، وهنا يأتى لعب الكرة وهو يحمل هذا البعد الرمزى، وهو ما عبر عنه سيساكو بكل أستاذية وحرفية وخيال محلق، حيث إن المشاهد صار طرفا إيجابيا فى تلك الحالة، وهو يشاهد مباراة كرم قدم دون أن يرى فى حقيقة الأمر كرة قدم. وانتهى المشهد بأن الشرطة الإسلامية تأتى للتفتيش فتجدهم وهم يمارسون تدريبات لياقة بدنية، ولا تستطيع أن تمارس عليهم الحد الدينى، الذى يعنى طبقا لشريعتهم 20 جلدة، ما دمت مارست تلك اللعبة.
يبدأ المخرج أحداث الفيلم بلقطة لغزال جميل يجرى بكل رشاقة فى الصحراء، وينتهى أيضا إليها، كأنه أمل قادم بالتخلص من هذا الشبح، الذى يتدثر بالدين ولا يعرف سوى الدموية. الشرطة تعتقد أن الإنسان تتم السيطرة عليه عندما يصبح بلا روح، ولهذا يحرمون الغناء والموسيقى، ويطاردون من يمارس هذه الفنون حتى يصل بهم الأمر إلى القتل رجما بالحجارة. يتابعون ويترصدون من يمارس الموسيقى والغناء فى بيوتهم، لأنها كما يرونها حرام، وتطالب النساء ليس فقط بتغطية الرأس ولكن القفازات ينبغى أن تضعها المرأة على يديها، وفى مشهد تحدٍّ تُقدم المرأة التى تعمل بائعة سمك يديها إلى الشرطى تقول له: اقطعها، لأنى لن أضعها فى قفاز.
لا ينسى المخرج أن يضع أيضا فى المعادلة هؤلاء الذين يصورون إعلانات لعدد من الفنانين وفوقهم لافتة مكتوب عليها «أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله» ويقدم الشاب نفسه فى لعبة تمثيلية على اعتبار أنه اكتشف أن الموسيقى حرام، فقرر أن يتوب ويعلن تبرؤه من تلك الممارسات التى تغضب الدين، ولأنها تمثيلية وهؤلاء تجار دين يبدأ المخرج الذى يصور الإعلان فى توجيه الشاب لتغيير طبيعة الأداء لاكتساب تعاطف الرأى العام بأى وسيلة. العائلة الرئيسية فى الفيلم تتكون من زوجة وزوج وطفلة، والزوج لديه ثمانى بقرات يتكسَّب منها، ونلاحظ أن مسؤول الشرطة فى تلك المقاطعة يتعمد أن يذهب إليه فى توقيت غيابه فى محاولة لاستمالة زوجته. الحدث المباشر الذى نتابعه هو عندما يقتل أحد الصيادين بقرة، لأنها دخلت خطأ إلى شباكه التى زرعها على النهر، وعندما تحدث مشادة يُقتل الصياد وينتهى الأمر بالقبض على صاحب البقرة، الذى يمهد الفيلم بقتله، لأنه لا يستطيع سداد الدية 40 بقرة، على شرط أن يقبل أهل القتيل ذلك. يحرص المخرج على أن يقدم بين الحين والآخر الوجه الصحيح للإسلام من خلال رجل الدين، الذى يحاول تصحيح الصورة. لجأ المخرج بين الحين والآخر إلى استخدام لغة فصحى مبسطة، حيث إن فى موريتانيا عديدا من اللغات وبينها العربية، ولكنه ابتعد عن أداء العربية بلهجة غير مفهومة، فلجأ إلى الفصحى المبسطة، وإن كان أداء الممثلين بالعربية يبدو به قدر لا ينكر من الافتعال، فأصبح الممثل كأنه فى حصة مطالعة رشيدة.
الموسيقى الإفريقية تدخل فى لحظات مليئة بالشجن لتشع إحساسا روحيا، بل وصوفيا، تظل تمتلئ به أعماقك. المخرج يقدم صرخة ضد هؤلاء المتطرفين الذين يمارسون القمع باسم الدين، بينما قلوبهم مملوءة حتى الثمالة بالقسوة.
قد يرى البعض بنظرة متعجلة أن الفيلم ضد الإسلام، والحقيقة أنه يفضح من يحاولون النيل من الإسلام، وهناك بالتأكيد فارق، فكان هذا الفيلم هو عنوان السينما العربية فى «كان»!!