نمت اليوم سبع مرات، وحلمت بكِ مئة مرة، فى الحقيقة كنت أنام وأصحو على أحلام تغمرنى بكِ، لم أنَمْ حتى الثامنة صباحًا، وفى الثانية عشرة ظهرًا -وقد سمعت آخر دقّات الساعة المعلَّقة فى الصالة- جاءتنى أمى تَهزُّ كتفى لإيقاظى، كى أرد على مكالمة هاتفية، وعدت فنمت فى الواحدة -فقد طالت المكالمة- وصحوت كى أتناول غدائى فى الثانية والنصف، وشربت الشاى وشاهدت مشاهد متتالية من فيلم يُذاع فى الظهيرة، ثم غفوْت بعد الثالثة بقليل.. وعنَّفتنى أُمِّى لكل هذا النوم، الذى لن أستطيع معه النوم ليلًا، فأيقظتنى فى الرابعة، لكننى فى الساعة السابعة مساءً، وقبيل انطلاق البيت بالضجيج، زارتنى غفوة قصيرة على الأريكة فى الصالة.. نمت معها.. وصحوت.
فى كل نومى كنتِ معى، أصالحكِ فى الحلم الأول وتخاصميننى فى الثانى، وأتمنى أن أقول لكِ شيئًا خاصًّا وحميميًّا فى حلم، فتسألينى عنه فى حلم تالٍ، وأراكِ فى ابتسامة وضاءة وبياض وجهكِ يلف ملامحكِ فى نورانية حنون، وأبكى على أصابعكِ الملفوفة النحيفة وهى تمسح خدّى، وأستغفركِ ذنبى، وأحدِّث نفسى أنكِ ستتصلين بى هاتفيًّا، فتتصلين فى الحلم الثالث، وأقبل يدكِ فى حلم وأنا أشكركِ، وأغوص فى عنقكِ بشفتىّ فى حلم وأنا ألج بكِ، وترتدين ثيابًا سودًا فى مشهد قاسٍ وأسألكِ مَنْ مات؟ فتربتين على كتفى وتقولين أنتَ.
ونقف معًا على درجات سُلم قصير وألومك على كل ما فعلتِه معى وبى، أقول:
- كل هذا التجاهل؟ كل هذا الرفض؟ ماذا فعلت لكِ؟! لقد أحببتكِ، إننى أحفظ تفاصيل خيوط ثوبكِ، آثار قدميكِ على الأرض، شكل أصابع رجلكِ، طريقة عناق خصلات شعركِ، جميع ألوان أصابع الروج التى تستخدمينها، أشم عطر جلدكِ، أغمض عينىّ وأعرف ماذا تفعلين الآن، وأشعر قبضة محمد علِى كلاى تصدم بطنى (تتكرر الصدمة بالقبضة متتالية متسارعة حتى أظن أنه يقتلع معدتى) حين تغضبين منى، ينسكب كل دمى تحت قدمىّ، أرتعش وتنقبض الدنيا من حولى.. الشجر مقوس، والجدران مقعرة، والممرات محدبة، والوجوه منكمشة.
أحبكِ.
يختفى السُّلم القصير ودرجاته ولون فستانك، فتظهرين ثم تبتسمين وتسألين:
- هل غضبت؟
■ أنا عمرى ما أغضب منكِ.
ثم تنطلق الريح عاصفة ودوائر تراب واسعة وثقيلة ترمى بنا، وأريد أن أحميكِ داخل صدرى، لكنكِ ترفضين، تجذبين يديكِ ووجهكِ.. تنفلتين منى وتصرخين:
- إنت اتجننت!
وتجلسين فى حديقة صغيرة «لعلها حديقة بيتنا» على مقعد خشبى، والريح تعبث فى الكون وأنتِ تبكين، وأرانى فى صندوق تابوت ملقى فى زاوية من الحديقة، وقد حام حوله بط أسود، وأتذكر البطة السوداء فى دروس المطالعة التى ظهرت وسط الدجاج فكرهها الدجاج، وانصرفت عنها الكتاكيت.
ويدور بيننا حوار طويل فيه كل ما لم أقله لكِ، وفيه كل ما أتمنى أن تقوليه لى، ثم أصحو، ثم أنام، فأذكركِ بما قلته فى الحلم السابق، فتضحكين وتقولين: «إنه مجرد حُلم»، فأعتب عليك.. إن هذا حلم آخر، فما الذى اختلف؟! هل حتى فى الأحلام تختلفين وتنقلبين؟! اليوم تحتاجين منى أن أصمت وأرحل.
بعد غدٍ تطلبين منى أن أكف عن حبكِ.
بعد أيام تطلبين منى أن لا أغضب، لأنك توقفتِ عن حبّى.
بعد شهر لا تردِّين علىَّ السلام.
بعد شهرين لا تعرفين صوتى فى الهاتف.
ماذا جرى لى لتفعلى بى هذا؟!
أقول هذا، وأنا يقظان بين نومين، وتجرى أمامى مشاهد الفيلم العربى، وأقول: «هل يمكن أن تتمكَّن امرأة من رجل إلى هذا الحد، حدِّ أن لا يرى وأن لا يحلم إلا بها؟ امرأة أفكّر بها فى كل دقائقى.. قبيل نومى وفى نومى وبعد نومى.. تسيطر على دمى وتتحكّم فى نظرات عينىّ، وأعيش اليوم كله وأقف على أظافرى لاهثًا وراء رنين هاتف أقول: إنها هى، أو أتماسك مدَّعيًا البطولة، رافضًا إدارة القرص كى أكلّمها، امرأة تأخذ بقلبك، تنشله وتفتّشه وتحطمه وتركبه وتلقى به فى صندوق خزانتها.. أو قمامتها».
إلى هذا الحد؟!
تأتينى فى الحلم مع رجل آخر، تقترب منه وأقترب معها، أظن أنى أعرفه، وإذا بهما يقتربان ويهمس لها: أهلًا يا فلانة، ثم يدنو بوجهه منها وهى مقبلة عليه، يمسك بشفاهه خدَّها الأبيض الساحر، ويمسح بشفاهه بياض وجهها وتبتسم هى، تعود برأسها إلى الخلف ثم تقدم الآخرَ لرجل آخر، أعرفه أظن.
وأشعر جلدى متشقِّقًا متصدِّعًا مخلوعًا عن عظمى، وقوة غيرة بركانية تدمِّر وجودى، وأقول لها: لماذا؟ فتقول لى: إنت مالك؟!
وأصحو فأطلب أن أراها معى عارية فى حلم، فلا أراها، ما كل هذا العناد؟! حتى فى الأحلام حينما أحاول القرب من أصابع يدها، مجرد اللمس، فقط أشعر أناملها تحت أناملى، أقترب مرة نحو جسدها، عودها الباسق... استدارة ظهرها، صَبّة فخذيها، رجّة ثدييها، لكنها تبتعد وتسلِّم كل هذا لغيرى راضية مَرْضِيَّة فتصرخ: إذن ما الذى تريده بالضبط؟! ما هذا الجنون؟! ارحل واصمت، خلاص أنا تعبت.. وتهتز وهى تنتحب: تعبت.. تعبت.. إنت فاكرنى إيه؟! إنت فاكر نفسك إيه؟!
وتقترب بقبضتى يديها نحو صدرى، تضربنى وتدفعنى وهى ترتعش وتبكى وتصرخ وتلهث وتعرق وترتج تمامًا، لماذا لا أصحو الآن؟!
فى آخر الليل أو مع مطلع النهار وأنا أحاول النوم بعد يوم طويل حد السخف، قلت: إننى لن أفكِّر فيها، وقلت: إننى لن أحلم بها، لكننى فكَّرت كثيرًا جدًّا، فاختبرت نفسى.. كيف سيكون حُلمى؟! هل سأراها باسمة أم حزينة؟! تحبّنى أم تكرهنى؟! هل ستكون معى أم مع غيرى؟! طيب ماذا سأقول لها؟! سأحاسبها على أنها لم تتكلَّم معى، أم سأغفر لها كل شىء.. أم أنها ستُطَيِّب خاطرى وسنعود كما كنا؟!
ثم انتظرت الحُلم..