أتطلع لليوم الذي ستطلب فيه مني الإعلامية المتميزة ريهام سعيد أن أكتب مقدمة لكتاب عن مسيرتها الإعلامية. أكاد أرى الاسم على مجلد فاخر:
"الإعلامية المصرية التي أبهرت العالم.. ريهام سعيد.. قصة نهار".
(في هذه الحالة لا نستطيع أن نقول: "قصة حياة". لإن الحياة قناة منافسة، وريهام تعمل في قناة النهار)
على كثرة ما عرفت من مدارس الإعلام تقف ريهام سعيد وحدها لتؤسس ملامح مدرسة ومتفردة، تضرب قواعد الإعلام كما نعرفه لتخط، وبأحرف من نور، أسسا جديدة، لإعلام يتحرر، باسم المباديء من أعراف الممارسة. ويتجاوز، باسم الأخلاق، كل أخلاقيات المهنة.
في الإعلام الذي أعرفه، لا ينبغي الكشف عن هوية طفلة تعرضت لصدمة قوية كما هو الحال في حوادث الاغتصاب، لا ينبغي الكشف عن شخصيتها، أو اسمها، أو أي معلومات تسهل التعرف عليها. لكن مع إعلام ريهام انت تعرف اسم الطفلة واسم امها وابيها، وتحفظ ملامح الوجه البريء، وتضمن أن الفضيحة ستدخل مئات الآلاف من البيوت، وسيتفرج عليها الملايين. وستضمن مع ريهام أن الطفلة ستعيش بأثر الفضيحة حتى الموت.
وعندما يأتي اليوم الذي تشب فيه عن الطوق، وتلتقي بمن يرغب في الارتباط بها، سيأتي من يهمس في أذن المحب الولهان: "انت مش فاكر دي مين؟ دي البت اللي اغتصبها ابوها وطلعت في برنامج ريهام سعيد".
سيقولون هذا حتى لو تبين لاحقا أن الجاني كان شخصا آخر، وأن الأب كان مظلوما.
ومن المؤسف أن إعلام ريهام يشكل إغراء لمحطات تليفزيون ترغب في أن تكون محترمة.
فشحنة الإثارة التي يحملها والتي تجذب الإعلان والمعلنين، هي بالتأكيد ما تجعل إعلاميا مخضرما مثل الصديق عمرو الكحكي، الذي تخرج من مدرسة بي بي سي، يغض الطرف عما تؤسسه هذه المدرسة الأسطورية من انحراف.
بل والأسوأ، أنه يشكل إغراء لأصدقاء مثل الدكتور المعتز بالله عبد الفتاح، الذي قام في حلقة من برنامجه "باختصار" ب "طلعة ميدانية" شبيهة بطلعات ريهام. في هذه الحلقة الفريدة، بحث عن الطفلة ميادة التي كانت ضحية لاغتصاب بشع في مدينة بورسعيد. وعندما لم يجدها، أجرى لقاء مع أخيها الصغير أرى أنه تجاوز فيه قيما لا أشك في اعتقاد الدكتور فيها، بل وانتهى به الحال إلى إجراء حوار مع أم مكلومة، نصب نفسه فيه قاضيا، وتعامل معها كما لو كانت القصة التي لاكتها الألسنة عن تقديمها الابنة لعشيقها حقيقة لا تقبل الشك. وبعد إذاعة حلقته بساعات، نكتشف أن الأب قد يكون هو الجاني، وأن الأم قد تكون بريئة من هذا كله.
إعلام ريهام.. كم من السقطات ترتكب باسمك، وبيدك وبيد غيرك من المحترمين. وكيف للصغير واخته مياده أن يمحوا عارا، سيلاحقان به أبد الدهر بعد أن تعرف الملايين على أسمائهم ثلاثية، ومحل إقامتهم بالمدينة، والقرية واسم الحارة وأسماء الجيران.
في الإعلام الذي أعرفه، لو تعرضت طفلة للاغتصاب، لا ينبغي أن يقترب منها أو يتحدث معها إلا إخصائي اجتماعي مؤهل للتعامل مع الضحايا من الأطفال. في إعلام ريهام لا توجد غضاضة في إجراء لقاء مع طفلة على الهواء، نسألها فيه بحب ورفق وحنان بعد اغتصابها: بابا عمل معاكي إيه يا حبيبتي؟ وعمل ده فين؟ على السرير؟
في الإعلام الذي نعرفه، المتهم بريء حتى تثبت إدانته، لكن في إعلام ريهام نستطيع أن نأخذ حالة تحت التحقيق (في الأغلب لسيدة أو رجل غلبان لا يستطيع أن يدافع عن نفسه) وتشرع ريهام سيف الأخلاق وتشجع الملايين على إدانته وربما إعدامه.
ظننت لفترة طويلة أن الضيف له احترام، بل وقدسية، مهما كنت درجة الاختلاف، ومهما كان موقف المذيع الشخصي منه. ولكن مع ريهام تعلمت أن المذيع دائما على حق، وأن المذيع يمكن أن يقول للضيف: انت عارف انك حيوان؟!
عندما كنا ندرب الصحفيين على التقديم التليفزيوني كنا نطلب منهم التبسط مع ضيوفهم: "تخيل أنك تحاور صديقا عزيزا أو قريبا لك". في المدرسة الإعلامية الجديدة سنقول للمتدربين: "تخيل أنك تحادث صرصارا، وبعد سبه وضربه بالشبشب، عليك أن تفعصه، كن على طبيعتك وعندما تشعر بالانزعاج اطرد ضيفك من الاستديو، من بيتك. فالمذيع دائما على حق"
في المدرسة الجديدة سنستخدم عبارة: "اطلعي برة.. ما تقلعيش الميكروفون هنا اخرجي اقلعيه بره.. انتي مجنونة" لتدريب المذيعين على التبسط على الهواء والحديث على السجية.
بعض الإعلاميين يلجأ للإثارة من أجل اجتذاب الجماهير. ولكن ريهام لا تفعل ذلك، فهي ترى أنها تقدم برامج الهادفة تعالج قضايا شائكة تؤرق المجتمع. وما زال لدينا أشكالا وألوانا من زنا المحارم والحيوانات سنعالجها مع ريهام وإعلامها، وعندما ننتهى من هذا كله، سنسمع معها إن شاء الله عن الرجل الذي ترك زوجته تغط في النوم ليقيم علاقة مع جهاز تليفزيون، أو مع كرسي في غرفة المعيشة!
إعلام ريهام إعلام غيور على الدين والعقيدة. وفي حلقاتها الأخيرة قدمت لنا حوارات ثرية مرة مع رجل ملحد، وبعدها مع سيدة ملحدة، لكننا ما زلنا في انتظار باقي حواراتها الإيمانية مع المراهق الملحد، والعجوز الملحد، ثم الطفل الملحد، والفسخاني الملحد، والقزم الملحد وكل أنواع الملحدين.
وعندما تسلط الضوء على هذا كله، فإنها لا شك ستبدأ سلسلة جديدة أولها "حوار مع خروفي الملحد".
وساعتها لن يغضب أي من ضيوفها إذا صرخت: أنت عارف انك حيوان؟!