لا يجب أن نتوقف طويلاً عند مظهره الذي لا يسر، بقامته القصيرة وساقيه المعوجتين وبذلته التي تنتمي إلى موضة عفت عليها كل الأزمنة، وطاقيته الصوفية التي لا تفارق رأسه الأصلع المنبعج صيفاً وشتاء، وصوته الأخنف الذي بالكاد يصل إلى طلاب الصفوف الأولى المنتمين للفرز الأول وفقاً لتصنيف وزارة التربية والتعليم العرفي الذي يجعل من القدرة على الحفظ والاسترجاع مقياساً لذكاء الطالب، ومن القدرة على لجم حصان لسانه وبالتالي عقله مقياساً للأدب والاحترام.
أقول، لا يجب أن نتوقف طويلاً عند هذه الأمور الظاهرية، لأنها كلها تتضاءل عند أداء السيد (ق) مدرس اللغة العربية في المدرسة الثانوية، فهو –وفقاً لتصنيف وزارة التربية والتعليم- أحد الفطاحل الكبار الذين يحفظون ألفية إبن مالك ويستطيعون إعراب آيات القرآن الكريم عن ظهر قلب، وبثبات لا يضاهيه سوى ثبات محجري عينيه اللذين يشبهان الثقبين الكونيين خلف زجاج نظارتيه السميك الذي يذكر بجهاز التنويم المغناطيسي في نسخته التي رأيناها في أفلام الأبيض والأسود.
لا أعرف لماذا حضرت شخصية السيد (ق) فجأة أمامي وأنا أتابع حوارات المرشحين الرئاسيين، لابد وأن ثمة شيئاً مشتركاً بينهم استدعى هذا الرجل الطيب من ذاكرتي العابثة، ولكنني لن أسمح لهذا العبث بجرجرتي بحثاً عن عوامل مشتركة، فلذة الحكي أكثر متعة من البحث، لذا فسوف أحكي.
كان مدرسنا الطيب يقرأ علينا الجزء المقرر من رواية (الشيخين) لعميد الأدب العربي طه حسين، وهي لمن لم يسعده زمانه بدراستها في المرحلة الثانوية، تتناول حياة كل من الصحابيين الجليلين عمر بن الخطاب وأبي بكر الصديق، المهم، كانت من عادة مدرسنا الهمام أن لا يسمح لأحد بمقاطعته خلال القراءة، ثم أنه بعد أن ينتهي من قراءته بصوته المخنوق من كثرة التدريس، لا يسمح لأحد بالسؤال، فهو من يسأل، وهو من يختار من يسألهم، ورغم أن النوايا لا يعلمها إلا الله، إلا أنني أستطيع أن أصنف نوايا هذا الرجل الطيب وفقاً لأدائه، فقد كان يوجه أسئلته بإحدى نيتين، الأولى حسنة -اسأل الله أن يثيبه عليها- وهنا يوجه سؤاله لهؤلاء الذين يعرف أنهم (محضرين) الدرس ليريح ويستريح وتعم الراحة على الجميع إلى أن تنتهي الحصة بين أسئلة وإجابات لا تتجاوز حدود استدعاء المعلومات.
أما النية الأخرى وهي نية شريرة -أسأل الله أن يغفرها له - فقد كانت تقطيم خلق الله وضرب المثال بالطلاب المشاكسين وفقاً لعرف وزارة التربية والتعليم، وهي للحقيقة نية كانت تسبقها علامات، ولكن لمن يعي، حيث تحمر وجنتا السيد (ق) ثم يتطاول واقفاً على أطراف أصابعه، وترى رأسه بزاويتي عينيه وصوان أذن كاملة وقد مالا إلى جهة بعينها من الصف، ثم تتغير نبرة صوته في محاولة لتجميع أكبر قدر ممكن من الحدة، وما أن ينتهي الطالب الحافظ من استرجاع المعلومات التي ضغط عليها سابقاً بسؤاله، حتى يكون السيد (ق) قد طوح سبابته المنتهية بذراع قصيرة يزيدها قصراً الجاكت المموه، موجهاً طاقته السلبية كلها تجاه طالب بعينه، ظن أنه في مأمن من مثل تلك الحركات التي لم يعوده عليها أستاذه.
الطبيعي في مثل هذه الحالة أن يرتبك الطالب، وأن يطلب إعادة السؤال حتى تتحقق لذة الأستاذ فيختتم المشهد بجملتين محفوظتين عن الفالحين والفالحات والفاشلين والفاشلات، وهو المشهد الذي عادة ما يتكرر، وننتظر كل عدة حصص من سوف يكون ضحيته، إلا أن الضحية هذه المرة كانت مختلفة، فقد تلقى زميلنا القابع في هدوء في آخر ركن من أركان الصف الصدمة بمهارة قط، وسرعان ما أعادها إلى مدرسنا الذي راح يبحث عن نبرة صوت تليق من بين النبرات التي جهزها بالتأكيد لكافة احتمالات الطلاب وأشكالهم التي مرت عليه عبر سنين خبرته الطويلة.
لم يفعل صديقنا -الهادئ بطبعه - سوى أنه تجاهل ببراءة سؤال المدرس الاسترجاعي، ووجه إليه بالبراءة ذاتها سؤاله الذي ظل يؤرقه طوال الحصة.
لا أذكر – ومجموعة من زملائي- أننا رأينا عيني السيد (ق) مفتوحتين طوال عام دراسي كامل إلا تلك المرة، وكنا نعتبرهما لشدة ضيقهما واختبائهما خلف النظارتين السميكتين بقايا ضامرة مثل الزائدة الدودية أو عظمة العصص في جسم الإنسان، إلا أن سؤال زميلنا الهادئ الذي اعتبره السيد (ق) خارجاً، ليس فقط عن المنهج بل عن الأدب، ورأى فيه دليلاً دامغاً على سهو زميلنا وشدة بلادته، هذا السؤال كان له فضل تفتيح هاتين العينين، وأكيد أن الدهشة التي اعتلت وجه السيد (ق) وقتها لم تكن نتيجة رفضه للسؤال إنما نتيجة لأنه رأى.. نعم.. رأى للمرة الأولى بشراً غير الذين قرر أن يراهم دائماً وفقاً لتصنيف وزارة التربية والتعليم.
أما عن سؤال زميلنا الذي لم يحظ من المدرس بنقاش، ولكنه جمعنا معاً بعد الحصة لنتناوله بالتمحيص والفحص وتبادل الآراء، فلم يكن سؤالاً عن نشأة الكون ولا علاقة له بالذرة، سأل صديقنا ببساطة: كيف يصف النبي علياً ابن أبي طالب بالأجلخ، كما تقول الرواية، ونحن نعرف أن الصلعة نقص في الرجال! سؤال ساذج إلا أنه كان خارج منظومة الاسترجاع، وربما لسبب آخر -لا تسعفني به الذاكرة الآن- انفعل مدرسنا العتيد، فيقال والعهدة على أحد الزملاء المشاكسين أن اصبع زميلنا الهادئ صاحب السؤال كانت تشير إلى رأس الأستاذ الصلعاء المختبئة خلف طاقيتها الصوفية وهو يطرح سؤاله الذري عن الأجلخ.
ما لا أعرفه حتى الآن، هو سر العلاقة بين هذه القصة وخطابات المرشحين الرئاسيين، ربما أبحث عن أحد زملاء الصف من الحافظين لأجد عنده الجواب.
waleedalaa@hotmail.com