المؤكد أن مَن صاغ هذا الخبر الذى قرأته أمس وجرت أحداثه فى إحدى قرى محافظة قنا كان حَسَن النية جدا وهو يختار هذا العنوان «المسلمون يحررون مسيحيا»، فهو يريد تأكيد روح الوئام بين المسلمين والأقباط، ولكن تأمَّلْ أن الصفة التى تصدرت المشهد هى أن محمد وأحمد وعلى فَكَّوا قيود أبانوب سمير مرقص بولس! الديانة هى ما أراد الخبر تأكيده، لو كان بولس يحرر بولس أو محمد يحرر محمد، ما أصبح خبرا، رغم أن الخبر هو أن مصريين يواجهون خاطفين مسلحين.
لماذا صرنا حتى فى أخبار الجريمة نفتش عن الديانة؟ عندما شكل سعد زغلول مجلس الوزراء وكان بينهم ثلاثة مسيحيين نبّهه البعض، حيث جرى العرف على أن يكون فى الوزارة اثنان من الأقباط، فقال لهم «أنا اخترتهم لأنهم أكفاء لا لكونهم أقباطا».
عندما تدخل الديانة فى المعادلة نرتكب حماقة، وكم من الحماقات تورَّطْنا فيها، مثلما يغنّى سيد درويش بعنصرية كلمات بديع خيرى «أنا المصرى كريم العنصرين» ونتناقلها جيلا بعد جيل ونحن نتصور أنها سلاح باتر ضد العنصرية رغم أنها ترسخ تلك التقسيمة البغيضة: عنصر مسلم وعنصر مسيحى، حتى لو كانت من باب التفاخر بكرم العنصرين، الواقع البيولوجى كذَّب تمامًا ذلك وأثبت أن جينات المصريين واحدة. أروع ما قدمه سيد درويش وبديع خيرى لتأكيد التوأمة الفنية والشخصية بينهما هو موقف عاشاه فى الحياة ولم يقدماه فى أغنية، عندما لم يسأل سيد درويش عن ديانة صديقه، فقط تعامل معه باعتباره فنانا موهوبا، اسمه «بديع» أوحى له بأنه مسيحى ولم يسأله لأنها لم تكن تفرق، وعندما مات أحد أقارب بديع قرر درويش مجاملةً لصديقه أن يصطحب معه صليبا مرصَّعا بالورود ووجد نفسه يشيّع الجثمان فى الجامع وهو يحمل الصليب واكتشف لحظتها فقط أن صديقه اسمه الثلاثى محمد بديع خيرى!
حكى لى وحيد حامد أنه عندما جاء إلى القاهرة وبدأ خطواته ككاتب ناشئ، بحث فى البداية عن مكان للإقامة.. التقى مع كرم النجار الذى كان وقتها قد سبقه بسنوات وأصبح كاتبا مرموقا واستأجر وحيد غرفة فى شقة كرم وأيضا لم يسأل أحد عن ديانة شريكه فى الشقة، وبالصدفة جاء خطاب مسجل إلى البيت وكان كرم غائبا وينبغى أن يوقّع وحيد بالاستلام واكتشف من اسمه الثالث أنه مسيحى.
بقىَ أن أذكر لكم أن كرم كتب فى مطلع السبعينيات الجزء الأول من مسلسل «محمد رسول الله» وأنه تلقى وقتها خطابا من مشيخة الأزهر يشكرونه على هذا المسلسل الذى يسهم فى نشر الصورة الصحيحة للدين الإسلامى. اللافت فى الأمر أنه لا أحد سأل لماذا يكتب مسيحى سيناريو مسلسل إسلامى؟ لا أحد، لا مسلم ولا مسيحى سأل، ولا أقول تساءل!
نسير على الطريق الصحيح عندما يصبح الوطن هو العنوان، لا أقول إن الإنسان لا يعتزّ بدينه، بل على العكس تماما ولكن أن لا تصبح خانة الديانة هى نقطة الانطلاق. أتذكر أن طفلين، مسلم ومسيحى، غرقا قبل بضع سنوات عندما حاول المسيحى إنقاذ المسلم، هكذا قال الخبر رغم أن الصحيح أنهما غرقا معا عندما حاول صديق إنقاذ صديقه.
لماذا نضع الديانة فى معادلة ليست لها صلة قُربَى أو نسب بالديانة ولن تفرق، ولو كانت تفرق لصارت تلك هى المشكلة. سألتُ الراحل أسامة أنور عكاشة عن شخصية «كمال خلة» فى رائعته « ليالى الحلمية» التى غلّفها بحساسية بسبب ديانتها وحرص على تلك المثالية المفرطة، فقال لى إنه بالفعل كان متعمدا ذلك لأن الناس لم تتعود على رؤية الأقباط فى الدراما فاضطر الى إقامة تلك الحواجز الزجاجية. ومع الزمن تحول الزجاج إلى جبال أسمنتية انتقلت من الدراما إلى الحياة!