الأجواء العامة لم تسمح بالاحتفاء برجل مكافح دون ضوضاء، خدم كقانونى فى كل بقاع الدولة، الفتوى والتشريع، التربية والتعليم، الخارجية والعدل، المركز القومى للبحوث، وزارات الزراعة والصحة والأوقاف والشؤون الاجتماعية والأزهر، مجلس الدولة والمحكمة الدستورية، رجل دولة وقانون لم يخلص إلا للعمل، مثل قليلين فى مصر كانوا خُدَّام مواقعهم دون أن يعنى هذا امتيازًا خارج هذه المواقع، شاء حظّه مع التطوّر الوظيفى المستحق أن يصبح رئيسًا مؤقتًا لمصر، مسيرة الرجل نفت عن كلمة «مؤقّت» شبهة أن يكون «خيال مآتة» فهو يخدم البلد دون انقطاع، ولكن المؤقت فى سيرته كان دومًا المكان الذى يخدم فيه.
سأفتقد عدلى منصور الرجل الكلاسيكى كما هى حال كهنة الدولة، ولكن كلاسيكيته هو تحديدًا تخلو من شبهات الفساد والمصالح والعلاقات والبيروقراطية، بل وبعيدًا عن التحليل العلمى تخلو أيضًا من ثقل الدم، منحته ملامح وجهه بخدود الأطفال المنتفخة وعينيه الضيقتين حضورًا خفيفًا على القلب، ثم سرعان ما اقترن هذا الحضور الخفيف بالضحك المحب له، كيف يمكن للواحد أن يهرب من ابتسامة ما وهو يرى عدلى منصور محشورًا فى كابينة قيادة المترو الجديد، ينظر إلى السائق نظرة لا تخلو من طفولة وكأنه يطلب منه أن (ما تجيب أسوق شويّة)، أو كيف يمكن لنا أن ننسى أول ضحكة صادقة لمسؤول حكومى التقطت له خلسة فى مكتبه، تلك الضحكة التى أعرف جيدًا أن ارتجاج جسده قد سبقها، ضحكة ستبقى فى ذهنى لأنها لم تكن مفتعلة أو منافقة ولم تكن فى سياق بوستر انتخابى أو إعلان فوق كوبرى أكتوبر، سيظل الواحد كلما تذكَّره ينتقل بين هذه الضحكة وبين تلك النظرة الحادة المعبّرة التى وجهها إلى أمير قطر على هامش اجتماع القمة العربية، بينما الأخير يقول كلامًا به ليونة قابلها منصور بنظرة (ماتنساش نفسك).
يغادر منصور موقعه بينما يؤمن أن مصر فى وضع أفضل من الذى تسلَّمها عليه، (عمومًا أى وضع حالى بكل مساوئه هو أفضل من وضع الإخوان)، ويبتعد عن الصورة تمامًا دون رصيد كافٍ (مجرد خطابات سريعة فى ذكرى أكتوبر وعيد العمال والقمة العربية)، لكنه كان أول مَن يعيد لفصاحة الخطابات الرئاسية رونقها بعد سنوات اختلى فيها -وما زال- كل الزعماء باللغة العربية فى إحدى الزراعات المهجورة للاعتداء عليها، سيرحل تاركًا للذكرى أنه مرّ من هنا رئيس جمهورية كان يتابع برامج تليفزيونية متوسطة النجاح، واختار واحدًا لعمل مداخلة تليفونية معه، ليقل لممثل الفلاحين إن طلب مقابلته لم يصله، وإنه فى انتظاره، سيرحل بعد أن غيّر قسم الولاء العسكرى للوطن وليس لرئيس الجمهورية، لم تخل فترته من أخطاء، لكنها أخطاء مؤقتة أيضًا مرتبطة بظرف عام مرتبك.
قدَّم البرادعى استقالته شفويًّا إلى المستشار عدلى منصور، حاول الأخير أن يراجعه فيها دون جدوى، بعدها بيوم وصلت إليه الاستقالة مكتوبة، فأراد أن يجعل منها وثيقة سياسية وإنسانية فى الوقت نفسه، فكتب فى تأشيرته نصًّا (أوافق على الاستقالة، لكنى كنت أتمنى أن لا يترك الدكتور البرادعى منصبه فى هذه الفترة، والوطن يمر بمرحلة بالغة الدقة والخطورة، ويبقى فى النهاية أن لكل إنسان قناعاته الشخصية التى يتعيّن احترامها)، سجل منصور وجهة نظره فى الأمر كله دون استعراض، نبَّه إلى أهمية البرادعى ثم لفت نظره إلى الخطأ الذى وقع فيه دون أن يعنى هذا تخوينه بل صاحب هذا التأكيد على واجب إنسانى ضرورى فى احترام اختيارات الآخرين.
هذه التأشيرة تلخّص عدلى منصور بالنسبة إلىّ، وهو رجل يشعرنى رحيله القريب ببعض الارتباك إذ إننى لم ألحظ وجوده بما يكفى لأن أعطيه وضعه، زار البيت فى صحبة لم يكن هو نجمها الأول، ولم يسعَ للنصيب الأكبر من أضواء الزيارة، وحافظ على أن يكون ضيفًا دمثًا مشغولًا بتقديم الواجب دون أن يلتفت إلى أمور محرجة، على رأسها أن بعض أصحاب البيت يخطئون فى اسمه.