يُحكى أنه فى نهاية عصر المماليك، عرف خلق الله المقيمون فى ناحية «إمبابة» مملوكًا طيبًا وابن حلال مصفى، ويتمتع بمظاهر تقوى وورع شديدين، يشِى بهما التزامه الصارم بأداء الصلوات الخمس فى مواقيتها بالضبط، فالفجر فجرا، والظهر حاضرًا، والعصر فى موعده تمامًا، وكذلك المغرب والعشاء.
لكن الرجل، مع هذا الالتزام الصادق بأداء فروض الدين، ظل مواظبًا على ممارسة طقس معين صار بالزمن هواية استبدّت به، وأضحت متعته الوحيدة ووسيلته للتسلية ودفع الملل والسأم عن نفس حضرته، فهو كان -حسب كتاب سيرته- ما إن ينتهى من صلاة العصر ويستغفر ربه بعدد حبات مسبحته الـ99، يقوم فورا إلى دكة منصوبة تحت أغصان الجميزة العتيقة التى تداعب بظلالها الناعمة الجدار الغربى لقصره المنيف. وبينما هو يمد رجليه على الدكة، فإن يده كانت تذهب بقوة العادة إلى حيث نرجيلته المدندشة بدلايات من فضة وذهب، ويبدأ بمسح مَبسمها الذى صنع من كهرمان فى صدره المكتنز باللحم والشحم، قبل أن يدسه فى فمه ساحبًا نفسًا عميقًا يزمجر ويكركر له قلب النرجيلة المسكينة.. وقد تمر لحظات بطول دهر وصاحبنا الطيب يعتقل المبسم بين شفتيه، حابسًا دخان المزاج فى صدره، قبل أن يأتى الفرج أخيرًا للدخان فينطلق مذعورًا من منخار الرجل إلى الفضاء الرحب الفسيح.
يعيد المملوك الكرة، وتكرر النرجيلة كركرتها المحمومة مرة بعد مرة، حتى يسبح فى خدر لذيذ، ويستقر فى حال بُلَهْنِيَة حلوة، يفضحها تردده فى ترك ذراع النرجيلة لحال سبيله، وكان -يوميًّا- بعدما يكتمل مزاجه ويروق تمامًا، يشير إلى واحد من جيش الطواشى والعبيد المتناثرين فى المكان، فينبرى واحد منهم فورًا ويناوله بارودة «بندقية» ملقمة بالذخيرة وجاهزة للضرب.. ودون أن ينسى البسملة، يقبض الرجل التقىّ الورع على البارودة وهو ينهض متحمسًا من رقدته على الدكة ويستدير مُوليًا وجهه نحو الطريق المترب الضيق الذى يمر بمحاذاة ضيعته، ويبقى هكذا واقفًا متأهبًا ومنتصبًا كزنهار حتى يأتيه الرزق.. عابر سبيل من الفلاحين الغلابة يقتنصه الباشا الطيب بطلقة، فيسقط مضرجًا فى الدم عندها ينفجر المملوك الورع ضاحكًا مقهقهًا، وقد أخذته النشوة إلى أعتاب الجنون، ثم يمد يده بالبارودة الفارغة إلى العبد الواقف خلفه ليبدلها له بأخرى معمرة وجاهزة لصيد بشرى جديد!!
وهكذا يمر الوقت مفعمًا بالنشوة والإثارة حتى تبدأ الشمس فى لملمة أشعتها مؤذنة بحلول صلاة المغرب، حينئذ يهرول الباشا المملوك لتأدية الفرض!!
ضج الناس سكان الناحية المنكوبة من عمليات قنص البشر التى يمارسها الباشا يوميًّا بغير كلل ولا ملل، ولم يجدوا سبيلًا لوقف هذه المجزرة إلا أن يكلفوا وفدًا منهم بالتحرك فى طلب التشرف بلقاء جناب الوالى للاستجارة به والشكوى إليه.. وصل الطلب فعلا إلى قصر الوالى مشفوعًا بوساطة الوجهاء والكبراء، فتكرم وتعطف جنابه وأمر بأن يأتيه وفد إمبابة، فلما مَثُل الإمبابيون بين يديه واستمع منهم إلى تفاصيل الحكاية الدامية كاملة، أطرق جناب الوالى وبقى وقتًا طويلًا صامتًا متيسًا، ولولا أنه كان بين الحين والآخر يتجشأ أو يزوم لظن الوفد أن السر الإلهى صعد، وأن جنابه مات، لكنه أخيرًا نطق ورفع رأسه الذى كان مائلًا على كرشه العظيم، وبدا كأنه يحدث نفسه وهو يقول:
- آآآه.. الباشا بيهوى وبيحب صيد الفلاحين فى العصارى، والفلاحين الملاعين بيحبوا الحياة ومتمسكين بيها.. ليه؟ مش عارف!!
قالها وعاد للصمت والخرس من جديد، وبدا غارقًا فى تفكير حائر وطويل قطعه فجأة بحكم أذاعه على الملأ، إذ هتف بصوت مجلجل: نحن جناب الوالى المعظم، أمرنا بمنع الفلاحين الموجودين فى ناحية إمبابة من المرور بجوار ضيعة الباشا «فلان» من وقت أذان العصر حتى المغرب يوميًّا، والمخالف لأوامرنا ذنبه على جنبه.. انتهت المقابلة!!
(يُنشر للمرة الثانية)