هىَ الإسكندرية فى أول الصيف، كما أعرفها، استدعت عطورها، وازَّيَّنَتْ واتَّخذت زُخرَفها، وتهيّأت للمضاجعة.هوَ الكورنيش، بحر نائم فى صباح فقد مناعته أمام حَرٍّ مسيطر، ونسائم تسافر-فى رحلتها- حتى خدود البنات يتأبطن أذرع الشباب المتعَب بشعره الخشن وسُمرته المؤكدة وعبء المسير المحتوم.
هىَ المقاعد الخالية، تحت لافتات مدهونة بالبياض، وموائد فوقها مفروشات تحمل شارة الكافتيريا ورمز الفندق، الخشب المعشوق المعقود فوق الفَسَحَة المتسعة المطلة على البحر، والأكواب الزجاجية المقلوبة، استراحة النادل على مقعد منزوٍ، آخر بقايا كوب بيرة أمام كهل يرتدى قُبَّعة مدكوكة فوق رأسه.
هىَ المقاهى المغلقة على وجوه أصحاب المعاشات.. اصطدم الزهر بحاجز الطاولة، خبطة مربّع الدومينو، سطح الخشب الرخيص، دوران ملعقة -مرتعشة- فى الكوب الزجاجى نصف الملوَّث، الهاتف الأحمر فوق طاولة مدير المقهى يئِنُّ وجع نسيانه.
سيارات الإسكندرية الأجرة البرتقالية السوداء، هذا اللون المطلىّ على قلوب القادمين إلى هذه المدينة.
هو البحر مرة أخرى.. وجهى للبحر وظهرى للمهزلة، تلك التى تأكل عظمى.. كل يوم فقرة، فتكسرنى.
هل من الواجب أن أحدِّث نفسى، أم أتذكَّر شيئًا آخر مختلفًا، ليكن يومى الفائت، البيت، القطار، لكن وجهها يطاردنى وقد لهث نَفَسى وسقط عرقى وانحلّ جسدى.. وإذا به أمامى.. وجهها، فأبتعد فيدنو، فأدنو فيبتعد.
هل من المفيد أن أنساه، وأردّد بعضًا من أشعار محمود درويش، أم يكون أفضل أن أتخيَّل قصة جديدة؟
تصافحنى وجوه المتعَبين فى الكورنيش، أقف أداعب طفلًا رفعه أبوه فوق سور الكورنيش، صار يجرى ويلاحقه، قهقه الولد ومال بجسده فأسنده أبوه محذِّرًا، عندما اقترب منى، وضعت كفِّى أمام صدره، طالبته برسم العبور، فزع الولد مندهشًا، ثم كشف اللعبة فضحك، ضحك أبوه وتشاركنا تعجّل إنهاء الضحكة، ومضيا.
فكّت بنت أصابع كفّها من بين كفّ فتى، لما التصقت نظراتى بهما، ما بين خجلها وارتباك الفتى، انسحبتُ -بنظراتى- واستكملت خطواتى.
- ليس معقولًا.. أبلة ليلى!
كانت هى.. هى، القامة القصيرة -دون أن تبدو كذلك- الشعر الناعم المعقوص فى ذيل حصان، المشبوك بمشبك أسود فيه إطار من الفضّة، عيناها صافيتان واسعتان خلف النظارة ذات الإطار البنىّ الخفيف «ألم تُبَدِّل إطار نظارتها؟»، ورداؤها الأزرق المنقوط بالأبيض «نقاطًا كأنها الورد، كأنها الكائنات الغريبة، التشكيلات المجهولة».
هى أبلة ليلى.
عندما كنت أقف فى نافذة الفصل فى مدرستنا، ألمحها قادمة من عمق الحوش تمسك حقيبتها وأوراق الامتحانات الشهيرة، يقفز قلبى الذى كان صغيرًا ولا يزال، يدق بعنف، يصعد الدم لعينى «ضعيفة الرؤية ولا تزال» ترتعش أطراف أصابعى، أشعر انسحابًا مفاجئًا فى بطن صدرى، تصعد درجات السُّلَّم، العَلَم يرفرف، تسير فى الردهة المطلة على الحوش أمام الفصول، تعزف الأشجار نغماتها المنتظمة، تخطر فوق سلمنا، تنشد المقاعد أغنية عن الحب الجميل، تقترب من فصلنا، تفتح الباب، ينفتح قلبى، مئات من العصافير المزقزقة.
اقتربت منها فاكتشفت طفلة على صدرها.
- صباح الخير.
ابتسمَت.. وهى تحاول اكتشاف أمرى.
- صباح النور.
- ألا تذكريننى؟ ليس الأمر بعيدًا، لقد كنت طالبًا عندك فى سنة أولى ثانوى، هل تذكرين؟ لقد كان هذا من ثمانى سنوات فقط، لم تتغيّر ملامحك كثيرًا.
ضحكَت وقالت:
- أذكرك جيدًا لقد كنت أفضل مَن يكتب موضوعات الإنشاء.
بان على وجه أبلة ليلى ذبول اقتنص وردتها، هى ذات العين، لكن لونًا بنيًّا أكمل دورته حولها، هى ذات الشفة المتسعة عن ابتسامة جميلة حلوة.
تهز ذكراها جسدى إلى الآن، لكن خطأً يكسر انطلاقها.
ياه.. لقد نحلت كثيرًا، وسقط كتفاها، وبانت عروق فى ظهر كفَّيْها، اقتربتُ منها وقد حاذيتُ سيرها فى طريقى المعاكس.
- ابنتُكِ، أليس كذلك؟
وأشرتُ إلى الطفلة تحمل ملامح أُمِّها الأولى.
- نعم.
قالتْها مبتسمة، وهى تلمح تطفُّلَ عابِرٍ لمسيرتنا.
هى ابتسامتها يا خلق، تلك التى كانت تعطِّر الفصل، عندما تجلس فى ساعة الامتحانات، فى القاعة المتسعة الطويلة، والمسافات المنتظمة تفصل بين مقاعدنا وأدراجنا، الكراسات المفروشة على الموائد، المسطرة الجديدة، القلم الممتلئ عن آخره حبرًا، الممحاة المشتراة من المحل المقابل لبيتنا، القلم الرصاص الذى براه أبى وحسّن سنّه، وورقة رقم الجلوس عليها اسمى بخط ردىء، ورقة الأسئلة المطبوعة وقد عبّأها قلمى رسومًا وكلمات وعناوين لقصص أفلامى الوهمية.
تجلس أبلة ليلى على مقعدها، أمام مائدة صغيرة، تقطع ورقة من كراسة لها تفردها ثم تطويها نصفين، ثم تطبّقها على شكل رأس سهم من اليمين واليسار، تثنى أطراف الورقة السفلية من الناحيتين، ثم تطبّقها مرة أخرى، تغرق حتى أذنيها فى العمل، وابتسامتها -آه!- ملء شفتيها، تظهر أسنانها تنغمس أصابعها، ملفوفة عليها دوائر ظاهرة من الخطوط والانثناءات التى كنت أحبّها، تصنع أبلة ليلى مركبًا من الورق، تضعه أمامها، وتلصق نظرتها به طوال ساعات الامتحان يضيع منِّى نصف الوقت، أتابعها، أصابعها فوق الورق، عيناها على المائدة، رأسها أمام المركب، ورداؤها، حقيبتها النائمة.
ضغطتْ على حقيبتها، ولمستْ كتف ابنتها النائمة والتفتَت إلىَّ.
- ماذا تفعل الآن؟
حرَّكت رأسى مع كتفى اليسرى.
- خالى عمل.. وقلب.. وعقل.
ضحكَت وقد حاولت -بكفّها- إخفاء سِنَّتَيها البارزتين.
- وماذا تفعل فى الإسكندرية؟
- ما أفعله فى القاهرة، أسير على الكورنيش -بحرًا أو نيلًا- وأتذكَّر مدينتى نصف القروية، وأكتب قصصًا لا تُنشر، وأحب ناسًا لا تحبنى.
اخترقت شريط الصوت وسألتها:
- هل تذكرين أستاذ عبد الكريم المدرس الذى كان يحبك؟ نعم كان يحبك، ويطاردك فى المدرسة دائمًا، وأطلق الأولاد شائعة أنكما تتعانقان خِلسةً، يومها اشتدت بى الغيرة وعصفت بكيانى كله، ولم أعد أعرف طعمًا لنوم أو لراحة.
- اندهشتْ وتوقَّفتْ أبلة ليلى، وسألتنى:
- مَن أستاذ عبد الكريم؟
- أستاذ عبد الكريم مدرس الفرنساوى.
- لم أعرف أحدًا بهذا الاسم أبدًا.
- ليس معقولًا، نسيته؟! ولكنه خطبك بالفعل..
- عمرى ما عرفت واحدًا اسمه عبد الكريم.
- ماذا حدث يا أبلة ليلى.. كيف نسيته؟
- ولكننى لست أبلة ليلى.. أنا اسمى مُنى.