في الدقائق التي سبقت إذاعة الجزء الثاني لأول الحوارات التليفزيونية للمشير عبد الفتاح السيسي، انشغل عدد كبير من المحطات التليفزيونية بإذاعة تحليل للجزء الأول من الحوار مع مجموعة من خيرة الخبراء والمتخصصين. الإطلالات السابقة للمشير كانت محدودة من ناحية الوقت وهو ما أعطى فرصة للمحللين للتركيز على كل همسة، ولمسة، وإيماءة. إضافة إلى تحليل كل دلالات ارتدائه النظارات السوداء أحيانا وأيضا دلالة خلعها، إلى ما توحي به نظرات عينيه ونبرة صوته.
الشغف الشديد بشخص السيسي وما يفعله، حول المحللين إلى خبراء نفسيين وقفوا عاجزين أحيانا عن تفسير بعض الظواهر السيكولوجية الهامة. ومن ذلك مثلا لون ربطة عنق المشير التي قيل إنها كانت لبنية (أزرق فاتح) في لقائه مع الصحفيين، وزرقاء في لقائه مع إبراهيم عيسى ولميس الحديدي (أو العكس). المعلومة أثيرت أولا في برنامج تحليلي يقدمه نقيب الصحفيين الدكتور ضياء رشوان. وقد حسم النقيب الجدل حولها عندما قال لضيفه الذي بدا عليه الابتهاج الشديد باكتشافه: "على فكرة عايز اقول لك على معلومة. السيسي قابل الإعلاميين في نفس اليوم اللي عمل فيه اللقاء وكان لابس نفس الجرافته".
ورغم دقة الملاحظة وقيمتها إلا أنني لا أجد تفسيرا لتجاهل المحللين لمسألة أن ربطة العنق كانت من نفس لون الأباجورة التي ظهرت خلف السيسي في للقائه مع الإعلاميين في اليوم السابق وهي في تقديري إشارة واضحة لاهتمام المشير بموضوع الطاقة الذي تجلى لاحقا بعد ذلك في تركيزه على اللمبات الموفرة وأهميتها في الجزء الثاني من حواره التليفزيوني.
جزء كبير من تركيز المحللين انصب على أداء إبراهيم عيسى ولميس الحديدي. فضيوف برنامج "حزب الكنكة" على سبيل المثال لفت نظرهم أن المقدمين "الفاشلين" كما صرخت إحدى ضيفات الدكتورة نائلة عمارة، لم يظهرا احترامهما بالشكل الكافي للمشير. وهو ما بنى عليه ضيف آخر بتأكيده أن السيسي ينبغي أن يعامل باعتباره رئيسا فعليا من الآن. مما دفع الدكتورة نائلة التي عرفت بموضوعيتها الشديدة في إدارتها للكنبة، للتأكيد على أن هذا حق لأي مرشح رئاسي وليس فقط للسيسي. أما الضيف المحلل فتابع مؤكدا أن الحوار مع السيسي يقتضي مخاطبته بألقاب مناسبة.
شخصيا، قمت بمراجعة الحوار. وتأكد لي أن إبراهيم ولميس كانا يخاطبان السيد عبد الفتاح السيسي تارة بلقب سيادة المشير واحيانا المشير "حاف"، أو المرشح الرئاسي السيد السيسي. كما استخدما أحيانا ألقاب سيادتك وحضرتك. إلا أن استخدامهما لهذه الألقاب كان أقل بكثير من المعدل المعروف عالميا، والذي يقدر بعشرين حضرتك أو سيادتك في النانو ثانية.
المحللة التي صرخت بإن المذيعين كانا "فاشلين" اعترضت على ديكور الاستوديو لأنه لم يكن مناسبا. وأكدت أن شخصية من نوع السيسي ينبغي أن يجري الحوار معها "كما هو متبع" أمام "مكتب كلاسيكي". وربما كان هذا بالفعل هو بيت القصيد في الموضوع. فجلوس السيد المشير على نفس الطاولة مع مذيعين فاشلين في رأيي كان مؤذنا برفع الكلفة ومقدمة أتاحت للاثنين النيل من "هيبة منصب رئيس الجمهورية" كما لاحظ احد المحللين.
كما لاحظت أيضا أن إبراهيم عيسى كان يرفع حاجبه الأيسر أحيانا، بل وكان ينظر مباشرة في عين سيادة المشير. ناهيك عن أنه كان يقاطعه عندما كان المشير يستطرد لشرح بعض القضايا المهمة. وربما كان أبرز المقاطعات ما قام به ابراهيم عندما شرح المشير نموذجا من خطته لعمل "آليات بديلة" ضاربا المثل بقصة الألف سيارة المزودة بثلاجات، والتي سيذهب سائقوها لسوق العبور لتحميلها ثم ينطلقون "في كل حته".
"باقولك ألف عربية" قالها المشير أكثر من مرة لإبراهيم الذي بدا عاجزا عن الاستيعاب لإنه كان يفكر في الوقت ذاته في ضرب هيبة المشير ومكانة القوات المسلحة. وحانت له الفرصة عندما تحدث المشير عن الجيش قائلا "خلوا الجيش لوحده، الجيش قايم بحاله زي الفل"، بادر ابراهيم بتسديد طعنته المسمومة وتساءل: "ليه يا فندم احنا مش هانراقبه؟ مش مجلس الشعب أو مجلس النواب عنده لجنة أمن قومي هاتراقب ميزانية جيش وتشوف وتتابع؟".
وهو ما وأده المشير في مهده قائلا لإبراهيم: "عايز اقولك بمنتهى الصراحة بقا كده".. وبعد لحظات صمت طويلة أضاف: "الجيش يا أستاذ إبراهيم مؤسسة عظيمة قوي بشكل لا يمكن تتصوروه يا مصريين".
لا أستطيع أن أفسر انتقال إبراهيم عيسى من معسكر المؤيدين للمشير عبد الفتاح السيسي إلى معسكر المشككين والناقدين بل والطاعنين في عظمة جيشنا المصري العظيم، إلا باعتباره خلية نائمة أيقظها حوار السيسي، الذي عرف بصوته الهادئ الناعم. وقد أعطى تشكيك إبراهيم الفرصة، لتسديد طعنات غادرة لبرنامج المشير السيسي الذي قالت بلومبرج "الأمريكية" في تحليلها للحديث إن سياسته الاقتصادية مجهولة الملامح. هذا برغم أن المشير أوضح بجلاء أكثر من مرة "أنا عارف انا باقول إيه"، مؤكدا لمحاوريه "أنا مش هانام وانتو مش هاتناموا".
النيل من هيبة الدولة وهيبة الرئيس هو دائما حصان طروادة الذي يستخدمه الحاقدون لضرب الدولة وهدم قواتها المسلحة. وهو ما يجعلني، بعد أن تابعت سيل التحليلات والتعليقات التي انصبت على أداء الصحفيين "الفاشلين" إبراهيم ولميس لأن أطلب إعدامهما بشكل رمزي أمام مبنى ماسبيرو استجابة لحملة "اعدمهم يا سيسي" التي أطلقها الدكتور مصطفى النجار بمقال يحمل هذا الاسم منذ يومين، لتكون هذه مقدمة تطهيرية تسبق الفترة الرئاسية نضم إليهما بعدها على دفعات من سيتساءلون لاحقا عن سياسات المشير فيما يتعلق بملفات الفساد وإهدار المال العام، أو التهرب الضريبي، أو العشوائيات، أو العدالة الاجتماعية، أو أي موضوع من الموضوعات الهامشية التي يثيرها العملاء والراغبون في تشتيت الانتباه عن خارطة الطريق.
والله الموفق
*مذيع ومستشار إعلامي
والرئيس السابق لبي بي سي العربية
hosam@sokkari.net