من بين النجوم الزاهرة فى تاريخ الحضارة العربية الإسلامية وهى فى أوج ازدهارها وتألقها، يلمع اسم العالم والفيلسوف العظيم أبى نصر الفارابى (870 950م) الذى أثرى تراثنا وتراث الإنسانية الفكرى بفيض ثمين من الأعمال القيمة والخالدة، ربما أقواها وأشهرها ذلك النص البديع المنشور تحت عنوان «آراء أهل المدينة الفاضلة»، ففى هذا النص النادر أظهر الفارابى وعيًا عميقًا (طوّره بعد ذلك «ابن خلدون» أنجبُ فرسان حضارتنا التليدة) بمسألة شروط تقدم الأمم ونهضتها، وتوقف خصوصًا أمام موضوع الحكم والرئاسة على نحو ربما بدا مثاليا، لكنه أبقى على جسور اتصال قوية بالواقع، ولم يشطح أو يسبح بعيدًا فى فضاء الخيال، كما نصوص أخرى لاحقة كتبها مفكرون وفلاسفة عاشوا فى عصور أحدث، من عينة المفكر الإنجليزى توماس مور (1487- 1535) صاحب كتاب «اليوتوبيا» الشهير، وغيره من المبشرين بالحياة الإنسانية الهنية السعيدة تحت ظلال الفضيلة والتطهر التام من كل صور العسف والقهر والظلم.
أعود إلى نص الفارابى، واسمحلى أقتطف لحضرتك من بستانه ما يتماشى مع المناسبة الحالية (انتخابات الرئاسة) التى ذكرتنى بهذا السِّفر القديم.. وأبدأ بأن فيلسوفنا النابه انطلق فى بحثه من تلك الحقيقة الأساسية التى أورثها لابن خلدون العظيم وملخصها أن «البشر على تنافرهم (وتنوعهم) محتاجون إلى الاجتماع والتعاون كما أن الإنسان لا يستطيع أن يبقى ويبلغ أفضل كمالاته إلا فى مجتمع».
فأما المجتمعات البشرية (أو المدن) الفاضلة الناهضة فقد رسم الفارابى ملامحها بطريقة إظهار المغاير والمعاكس والمضاد، إذ يحدثنا عن «مدينة جاهلة» لا يعرف أهلها السعادة، و«مدينة فاسقة» يعلم أهلها كل ما يعلمه سكان المدينة الفاضلة لكن أفعالهم هى نفسها أفعال أهل المدينة الجاهلة.. وأخيرًا فإن هناك «مدينة ضالة» يظن ناسها ويتوهمون أنهم سعداء وفى أفضل حال مع أنهم فى الواقع، بائسون تعساء يسبحون فى مستنقع الجهل والغفلة.
أما أقوى شروط المدينة الفاضلة عند أبو نصر الفارابى فهو تمتعها بحكم و«رئاسة رشيدة» حكيمة لا تتوافر إلا فى شخص تجتمع فيه ميزتان أساسيتان، أولاهما «أن يكون بالفطرة والطبع معدًّا (مؤهلًا) للرئاسة»، والثانية «أن يكون قد تحققت فيه الإنسانية على أكملها».. كيف؟! يجاوب الفارابى ساردًا 12 خصلة يجب أن تجتمع وتتوافر فى الرئيس، هذه الخصال هى:
ـ أن يكون تام الأعضاء (بصحة جيدة).
ـ جيد الفهم والتصور.
ـ جيد الحفظ لما يفهمه ويراه ويسمعه.
ـ أن يكون جيد الفطنة ذكيًّا.
ـ أن يكون حَسَنَ العبارة (بليغًا) يواتيه لسانه على إبانة كل ما يضمره.
ـ أن يكون محبًّا للتعليم والاستفادة.
ـ غيرَ شَرِهٍ على المأكول والمشروب والمنكوح (النساء).
ـ محبًّا للصدق وأهله.
ـ كبيرًا (عزيز) النفس محبًّا للكرامة.
ـ أن يكون الدرهم والدينار وسائر أعراض الدنيا هينة عنده (الوهد).
ـ أن يكون محبًّا للعدل وأهله.
ـ أن يكون قوى العزيمة على الشىء الذى يرى أنه ينبغى فعله.
و.. صباح الخير.