متى ننوى التوقُّف عن الذهاب بالسياسة إلى المحاكم؟ لا يزال كثيرُنا يغطس فى ذات الخيال القديم الذى قُدنا به معاركنا مع نظامَى مبارك والإخوان، لا يزال خيالنا محبوسًا فى صندوق المعارضة وفى قفص الوسائل العتيقة، ليس لدينا أسهل من التنادى إلى مظاهرة، بل صارت المظاهرة هى الغاية لا الوسيلة، لهذا لا نطيق حتى الحديث عن تنظيم التظاهر أو ضبط قواعده، فهذا يحرمنا من الإحساس بدورنا الذى لم يعُد أن نُغَيِّر بل أن نتظاهر، كما لا نطيق تنظيم حق التقاضى ضد قرارات حكومية، فالتقاضى هو الشارع الوحيد الذى نعرفه للمواجهة والتغيير!
حسنًا، هذا كلام بتاع زمان، جرَّبناه ونجح بعضه وفشل بعضه، لكن ألا تملكون جديدًا؟
يبدو أنه لا نيَّة لأن تشتغل القوى السياسية والاحتجاجية بأدوات السياسة، فقد استسهلت أن تكون يدًا سفلى، لا يفكرون فى تغيير الحكومة بل فى تغيير قراراتها، لا يخططون لأن يحكموا بل أن يتظاهروا، بدلًا من أن يعلن بعضهم هيّا بنا نصل للحكم فإنهم يصرخون طلبًا لحق البقاء فى صفوف القوى الاحتجاجية، أن تنظم نفسك الآن للنجاح فى الانتخابات البرلمانية حتى تدير البلد أهم من أن تشغل نفسك فى أن تلغى قانونًا بأن تتظاهر ضده.
لا يرفع أصحاب الخيال القديم سقف طموحاتهم، بل ينحنون ليلتقطوا من الأرض بقايا الحالة الثورية.
لا يذهبون إلى السياسة بل إلى المحكمة.
التقاضى حق لأى مواطن، لكنه يعبِّر عن عجز شديد لدى المتقاضين من أهل الأحزاب والسياسة فى فهم السياسة.
المعارضة القديمة تخشى بقوة عودة النظام القديم، إنهم يَحِنّون إلى سلالم نقابة الصحفيين وسلالم دار القضاء، وينسون أن سلالم الوصول إلى الحكم باتت مهيّأة لأن يصعدوا عليها، لكنهم بدلًا من عمل سياسى ينظِّمون به أنفسهم ويموِّلون به نشاطهم ويتواصلون فيه مع شعبهم ويفوزون به فى صندوق الانتخابات، يولولون حنينًا إلى الماضى، فهم يريدون مظاهرات الخمسمئة ناشط ومرافعات نصير العمال فى المحاكم... هذا ما يعرفونه ويفهمونه، الاحتجاج لا السياسة، البعض يتخيَّل أن الثورة هى مجموعة مظاهرات والبعض يعتقد أن النضال السياسى هو الذهاب بخصومك إلى المحكمة أو التقاضى ضد قرارات وقوانين حكومية، هذا بالضبط هو الخيال القديم للمعارضة القديمة الصالحة للتعامل مع النظام القديم، أما مصر فهى تحتاج بعد ثورتين إلى مَن يفكر فى الوصول إلى مقاعد الحكم ليُغَير القوانين لا إلى مَن يقف أمام هيئة محكمة أو على سلالم النقابة ليطالب بسقوط القوانين!