.. ثم إننى قلت وكررت من قبل، أن الغُلب والبؤس يبدآن فعلًا من الاقتصاد والفقر والحرمان المادى، غير أنه لا يتوقف -للأسف- عند هذه الحدود بل يتفشَّى ويستفحل بالزمن ويتحوَّل إلى «نمط شامل للحياة» وغول ينهش عقول وأفئدة وأرواح وأخلاق وضمائر الناس حتى هؤلاء المحظوظين الذين أفلتوا من الفاقة والعوز الاقتصادى، لهذا فجريمة النظم القمعية الفاسدة التى من نوع نظام الحكم الذى نشب أظافره فى بدن هذا الوطن لمدة 30 عامًا وتلك العصابة الشريرة التى حاولت وراثته بعدما خطفت ثورة 25 يناير.. جريمة هذا الصنف من النظم والعصابات تتجاوز كثيرًا جدًّا مجرد نهب وتخريب مقدرات وثروات المجتمع المادية لصالح حفنة من اللصوص الكبار الذين يتحلّقون حول الحاكم الديكتاتور وأسرته مقابل إفقار وتجويع الأغلبية الساحقة من الشعب، إذ إن الخراب الشامل الذى تتركه خلفها يبدو كاسحًا مكتسحًا كل شىء، خصوصًا ذلك «الشىء» الخطير الذى أشرت إليه هنا قبل أيام، أى ما يسميه الباحثون فى علوم الاجتماع السياسى «بنية المجتمع الفوقية»، عقله ووجدانه ونسقه القيمى والأخلاقى ومنظومة الثقافة السائدة فيه، خصوصًا التفاسير والمفاهيم المنسوبة إلى الدين والتى يجرى تطويعها وتسطيحها وابتذالها عمدًا وبطريقة منهجية، لكى تستخدم كسلاح إرهابى ربما هو أكثر خطورة وفاعلية من أسلحة ووسائل القمع والقهر والقتل المباشر.
أدرى أن الكلام السابق يبدو صعبًا ومسرفًا فى الحذلقة النظرية أكثر من المعتاد أو المحتمل، لهذا قد تتضح وتنجلى الفكرة التى يريد العبد لله التعبير عنها إذا ما استعدنا معًا القاعدة الذهبية التى عملت بها قوى الاستعمار القديم (والحديث أيضًا) بإخلاص، ويقول منطوقها صراحةً إن «الشعب الجاهل أسهل وأسلس قيادًا من الشعب النابه المتعلّم»، هذه القاعدة عينها ورثتها عصابات الاستعمار الداخلى التى قفزت على سلطة الحكم فى بلادنا وأوطاننا المنكوبة واستعملتها فى أغلب الأحيان وطبّقتها بإخلاص وقسوة أشد من جيوش الاحتلال الأجنبى، لهذا فإن «التجهيل» ونشر التخلُّف والتعصُّب وضيق الأفق هى كلها بضاعة أساسية لا تستطيع النظم الفاسدة والمنحطة العيش والبقاء من دونها.
إذن ليس من قبيل الصدفة أبدًا أن تشهد العقود الثلاثة الأخيرة من عمر هذا الوطن شيوع وانتشار تلك الطائفة الواسعة جدًّا من الظواهر المشينة التى قد يضحك بعضنا منها وقد ينجرف أغلبنا -بالغفلة والإلحاح- إلى السقوط فى أوحالها، ومنها -مثلًا- ظاهرة تبجيل وترقية أنصاف المتعلمين والجهلة و«الصيَّع» وتصعيدهم وتمكينهم، ليس فقط من التحكم فى مفاصل الدولة عن طريق اصطفاء هذا الصنف بالذات لتولّى المناصب التنفيذية العليا أو التسرّب بكثافة إلى مقاعد سلطة التشريع (أظنك ما زلت تذكر الخِلق التى احتلت البرلمان ثلاثين عامًا، وورثتهم فى «برلمان الثورة» المضادة المنحل)، وإنما أيضًا تسليطهم عمدًا على أدمغة الناس من خلال منابر الإعلام بالذات، بحيث أضحت الجهالة والبذاءة هى الوجبة الرئيسية التى تبثّها نسبة لا يستهان بها من هذه المنابر فى عقل المجتمع ووجدانه.
وكذلك لم ينج الدين نفسه من تلك المحرقة العقلية والروحية الرهيبة بل لعله كان أهم وأثمن ضحاياها على ما يدل «تسونامى» الرطان والضجيج الدينى الرهيب الذى يحاصرنا من ساعة أن نصحو حتى ننام، بينما هو فارغ تمامًا من أى مضمون خلقى أو روحى ومسجون فحسب فى زنازين «الشكل» و«الطقس» و«ديكور» الورع الكاذب المنافق الذى يسمح بارتكاب موبيقات وارتكابات وجرائم يُندى لها الجبين.
و.. انظر حولك من فضلك، واعلم أن المشوار ما زال طويلًا.. المهم أن نبدأ بسرعة.