قبل بضع سنوات قدَّم لنا المخرج داوود عبد السيد مشهد النهاية فى فيلم «رسائل البحر»، حيث شاهدنا قاربًا صغيرًا يستقله بطلا الفيلم وتحاصره من هنا وهناك الأمواج، ويصل إلى أسماعنا صوت تفجيرات لقتل الأسماك قبل اصطيادها، كان القارب مكتوبًا عليه «القدس»، وفوجئت بأن بعض الزملاء يقرؤون المشهد برؤية سياسية تتناول الصراع العربى-الإسرائيلى ويشيدون بالمخرج وكيف استطاع بحسّه السياسى وعمق إدراكه أن يتناول قضية فلسطين ويدين العدو الإسرائيلى ولم يكن داوود يقصد أى شىء من هذا القبيل، حيث إنه فقط أراد أن يقول إن الأرض والبشر تُدين تلك العلاقة، فلجأ البطلان إلى البحر ليحميهما من شرور الناس، كل ما كان يحلم به فى أثناء تنفيذ المشهد هو العثور على قارب صغير، وكل القوارب مكتوب عليها كلمات مماثلة، مثل «ماتبصليش بعيون رضيّة بُص للى اندفع فيّه» أو «أحبك يا اسمر»، ولا تلقى أى دلالة أو ظلال على قراءة الفيلم.
شىء من هذا القبيل من الممكن أن تجده عندما قرأ الدكتور عباس شومان وكيل الأزهر، مشهد محمد رجب بطل فيلم «سالم أبو أخته» وهو يُمسك جريدة «صوت الأزهر» على اعتبار أن الاختيار مقصود ويحمل إسقاطًا ضد الأزهر، خصوصًا أن البطل بعدها مباشرة قتل ضابط الشرطة الفاسد محمد الشقنقيرى، لم يلحظ أحد ذلك سوى الدكتور عباس، كل مَن شاهد اللقطة اعتبر أن الأمر لا يزيد على مجرد جريدة كان من الممكن أن تصبح مثلًا «التحرير»، ولن يقول ساعتها أحد إن رئيس التحرير إبراهيم عيسى، يوجِّه دعوة مستترة لقتل رجال الشرطة.
لماذا يبدّد رجال الأزهر طاقتهم فى ما لا طائل من ورائه ويضعون أنفسهم فى تلك المواقف التى تأخذ من مصداقيتهم، خصوصًا وهم غير مؤهلين لتحليل الأعمال الفنية، إذا كان بعض النقاد المتحذلقين قد أخطؤوا فى قراءة العديد منها عندما يحملونها بأشياء خارج النص فما بالكم برجل أزهرى؟!
الكل يستشعر مع تفاقم أزمات الأفلام التى يعلو فيها صوت الأزهر بالغضب أننا بصدد معركة يشارك فيها رجال الدين ضد الفنانين والمثقفين، وهكذا تابعنا التراشق بسبب فيلم «نوح»، ورغم أن قرار العرض يحمل رقم 354 وأصدره الرقيب السابق المخرج أحمد عواض، فإن الحقيقة هى أن الدولة لا تزال تراعى خاطر الأزهر ولن تعرضه على الأقل الآن، صحيح أنها لم ترضخ لقرار المصادرة الذى أراده الأزهر، ولكن وزارة الثقافة قررت أن تقف فى المنطقة الرمادية اللا موافقة واللا مصادرة.
وما حدث فى «حلاوة روح» تستطيع أن تضعه أيضًا فى نفس القائمة عندما يصدر الأزهر بيانًا يؤازر فيه الدولة على موقفها بل ويطالبها بالمزيد، لا أراها فى الحقيقة معركة تستحق أن نخوضها وأن نرى رجالًا أجلّاء نحترمهم ونبجّلهم وهم يسارعون بأن يشاهدوا الأعمال الفنية ويقدحون زناد فكرهم ويحللون اللقطة والمشهد والتكوين الدرامى وحركة الكاميرا، وهم فى النهاية لديهم فقط مرجعيتهم الدينية، التى تقرأ العمل الفنى بمقياس الحلال والحرام أو كما يقول المستنير منهم «حلاله حلال وحرامه حرام»، هم يريدون فى النهاية فنًّا يخضع للرؤية الشرعية، و90% على الأقل من الأفلام والأغنيات تتعارض مع تلك الرؤية.
يبدو أن الأزهر وهو يرى الآن الدولة الرخوة وهى تحاول إرضاء كل الأطراف فيشعر أنها فرصته لكى يملى إرادته، ولهذا يسارعون بين الحين والآخر بإعلان غضبهم وهو موقنون أن هناك مَن يخشى ويخاف، وفى النهاية سيرضخ.
لا نريد أبدًا للأزهر المقدس أن يتورّط فى معارك تنال منه ومن مكانته حتى لو انتصر فى معاركه الصغيرة «نوح» و«حلاوة» و«أبو أخته»، فهى تظل انتصارات بطعم الهزيمة!!