يزداد تقديري للمستشار عدلي منصور كلما اقترب موعد رحيله عن المؤسسة الرئاسية، فأنا معجبة بأداء القاضي المترفع عن الصغائر الذي يعمل طبقا لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا كان يوم القيامة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها».
العمل حتى النهاية.. والعامل متأكد أنه لن يرى ثمرة عمله ولن يحصد ما زرع، لكنه مكلف بالعمل الصالح حتى آخر نفس ولآخر لحظة على الأرض، في الأيام القليلة الماضية أصدر رئيس الجمهورية المؤقت المستشار عدلي منصور عدة قرارات لتسيير أمور الدولة وتحسين أداء المرافق وحل مشاكل قائمة، أصدر قرارًا جمهوريًا بالموافقة على إعادة تخصيص مساحات من الأراضي المملوكة للدولة ملكية خاصة، لصالح الهيئة القومية لمياه الشرب والصرف الصحي، كما أصدر قرارًا بقانون في شأن الإسكان الاجتماعي، في إطـار خطة التنمـية الاقتصادية والاجتماعية للدولة، بغرض توفير مسكن ملائم للمواطنين محدودي الدخل، وقطع أراض عائلية صغيرة لذوي الدخول المتوسطة، ولقد أصدر خلال فترة حكمه القصيرة عددا كبيرا من القوانين والقرارات، لا يذكر الإعلام المرئي منها إلا القليل.
وعدلي منصور يدرك أن أيامه كرئيس مؤقت قد أوشكت على النفاد، وكان يمكن أن يفعل كما يفعل الكثيرون غيره حين يدركون أنهم ذاهبون بلا عودة، ولكن الرجل يعمل وفقا لضمير رجل القانون، ويعطي المنصب الذي اؤتمن عليه حقه، ولا ينتظر شكرا ولا تقديرا.
هذا الرجل سيخلد اسمه في تاريخ مصر، صحيح أنه كان رئيس جاء بالصدفة، فلقد عينه مبارك عضواً بالمحكمة الدستورية العليا وظل لسنوات النائب الأول لرئيسها ثم تولى رئاسة المحكمة في 30 يونيو الماضي خلفاً للمستشار ماهر البحيري، وأدى اليمين كرئيس للمحكمة يوم 4 يوليو قبل أن يؤدي اليمين كرئيس للجمهورية بدقائق قليلة.
صدفة وراء صدفة، جعلت من عدلي منصور الذي ظل لسنوات الرجل الثاني في المحكمة الدستورية العليا، رئيسا لمصر في فترة حرجة جدا، وطوال وجوده في منصبه الرئاسي لم يدخل في معارك جانبية ولم يصرح بتصريحات تأخذها عليه الصحافة، رغم أنه قريب العهد بالسياسة، فكان أكثر حكمة من كثير من الوزراء المخضرمين الذين وقعوا في أخطاء وخطايا نتيجة انفلات ألسنتهم وعدم تقديرهم للمواقف واستخدامهم لتعبيرات غير مدروسة صادمة للرأي العام أو سببت جدلا وشجارا حولها والأمثلة كثيرة ولا داعي لذكرها.
المستشار عدلي منصور ابتعد اختياريا عن الإعلام ولم يحاول أن يدخل في دوائر الشبهات، بل كان أكثر حرصا من سابقه الذي جاء بصندوق الاقتراع حفاظا على هيبة المنصب.
لعل البعض يجد أن ما يفعله المستشارعدلي منصور طبيعي، لا يستحق إعجابا أو تقديرا، فهو رجل واقعي يدرك أنه جاء بمحض الصدفة، وكان من الممكن أن تتم الاستعانة بأي مستشار يرأس المحكمة الدستورية في هذا الوقت، وتلك القرارات والقوانين التي يصدرها تقدم له بصيغتها من الجهات المختصة، وهو لا يفعل سوى أن يوقع عليها بالموافقة، فليس له إرادة اختيار أو رؤية ولا توجيهات تعمل الحكومة على تنفيذها، إن نقط الضعف التي يتحدث البعض عنها هي في ذاتها نقط قوته، فجميعنا نعرف البيروقراطية المصرية، وكيف أن الورقة يمكن أن تدور في المكاتب وينتهي بها الحال إلى الاختفاء بقدرة قادر لتبدأ الدورة من جديد ونخسر وقتا وجهدا و«فلوس»، فوقف المصالح والمماطلة والتسويف من خصال مؤسسات الدولة المصرية، وكان من الممكن أن يفعل المستشار عدلي منصور ذلك، خاصة أن هناك قوانين وقرارات سيكون لها تداعيات بعد انتهاء فترة حكمه المؤقت ويمكن أن تضره شخصيا بعد ذلك، لكنه يقوم بدوره كما يفعل الجندي على جبهة القتال الذي يعلم أن عليه أن يقاتل لآخر نفس، وهو متأكد أن أحدا لن يذكر تضحيته، ويا ليت ذلك يكون أسلوب حكم الرئيس القادم، أن يقتنع أن هناك مراكز بحثية ومستشارين على علم وخبرة عليه أن يأخذ برأيهم لا برأيه الفردي، وعليهم أن يضعوا استراتيجية البلد لعشر سنوات قادمة طبقا لما لديهم من علم ومعلومات وليس طبقا لتوجيهاته، وهو عليه صياغة ذلك في قوانين وقرارات حتى لا نكرر العبارات المتخلفة «تعليمات سيادته» و«طبقا لتوجيهات السيد الرئيس» التي أضاعت البلد.
تحية للمستشار عدليى منصور الملتزم الخلوق، ونصيحة لرئيس مصر المقبل «نريد تغييرا في أسلوب الحكم، ولن تنجح يا سيدى في تطوير مصر إلا برفع شأن ثلاث: العلم، وتنفيذ القانون العادل، والحرية، والقضاء على ثلاث: الأمية والبطالة والفساد».
اللهم ولِّ علينا من يصلح عوجنا ولا تبتلنا بمن يضاعف شقاءنا اللهم آمين.