«تعالى سلم على سيدك»..
قالها الأب فاقترب الطفل من جده العائد لتوه من المستشفى والمستلقى على فراشه منهكًا، ثم قبّل يده فقبّل الجد جبهته.
دخل العم وعلى جلبابه آثار التراب قائلًا: «كله تمام»، يعرف الطفل أنهم قد بتروا قدم الجد فى المستشفى، وأن العم ذهب إلى مدفن العائلة ليدفن القدم المبتورة.
قال الجد: «هانت.. المدفن لا يُفتح فقط من أجل مجرد قدم تافهة».
راجعوه فى ما قاله فأنكر عليهم حزنهم قائلاً: «يعنى هافضل عايش على طول؟ طب ده حتى يبقى وجع قلب»، ابتسموا بمرارة فقال: «لا بد للنقطة أن تعود إلى البحر».
قال الأب مشيرًا ناحية الطفل: «كان عايز يروح معاهم المدفن وحوشناه بالعافية».
سأله الجد عن السبب، فقال الطفل: «علشان اقرأ الفاتحة لرِجلك».
ضحك الجد حتى دمعت عيناه، ثم قال له حفيده: «أمى دايمًا تقول جدك رِجل جوه ورِجل بره، أنا النهارده فهمت».
هاج الأب ونزع الحفيد من أحضان الجد بقسوة وعنفه على كلامه، فغضب الجد إلا أنه لم يستطع أن يمنع الابن من اصطحاب الحفيد إلى الدور السفلى للمنزل.
حكى لأمه ما حدث فلطمت على وجهها، سألها لماذا بتروا قدم جده، فقالت له: «السُّكَّر».
كل رجال وشباب العائلة مصابون بهذا المرض، يعرف أنه سيزوره يومًا، هكذا أفهمته أمه وهى تقنعه بالإقلال من شراء الحلوى «عمّال على بطّال». سألها إن كان السكّر «بيوجع»، قالت له: «سيوجعك عندما تصبح فى سن سيدك».
تخيّل نفسه عجوزًا بقدم مبتورة، وقارن بين تلك المأساة وبين حبه للحلويات والطعام عمومًا، فقرر أن لا يتخلى عن حبه لكنه لن يفوت منذ هذه اللحظة فرصة للجرى أو لعب الكرة، سيلعب حتى يشبع بحيث لا يؤرقه بتر قدمه.
نام واستيقظ على صوت الجد عاليًا يصيح فى الجميع: «ما حدش له دعوة»، صعد درجات السلم حتى غرفة جده، ففهم أن الجد طلب منهم أن يحضروا له رغيفًا شمسيًّا وبعض العجوة المحمَّرة فى السمن البلدى، حاولوا أن يثنوه عن رغبته لكنهم فشلوا بجدارة، أحضروا له ما يريد فجلس يأكل بشهية واسعة، لمح حفيده يجلس فى أحد أركان الغرفة فأشار إليه ليجلس إلى جواره على السرير، جلس الطفل فصنع الجد لقمة كبيرة مليئة بالعجوة الساخنة وقدمها للطفل وهو يهمس له فى أذنه: «كل.. كل كويس قبل ما يقطعوا لك رِجلك»، غمز الجد بعينه للطفل فابتسم. «بتقول له إيه يا حاج؟»، سأل الابن فقال الجد: «ما حدش له دعوة»، «سيدك بيقولك إيه؟»، سأل العم فقال الطفل: «ده سر».
احتضن الطفل سرّ جده وفرح به عندما وجده يتوافق مع ما توصل إليه بمفرده من قرارات.
فى صباح اليوم التالى استيقظ على الصراخ قادمًا من غرفة جده العلوية.
كان يقف فى ساحة المنزل بينما رجال العائلة ينزلون بالنعش على السلّم، وما إن استقروا على آخر درجة حتى تسلل هو باتجاه الغرفة العلوية.
كان النعش يخرج من باب الدار والرجال يشيرون للنساء بغضب لمنع الصراخ، فغطى الصمت لثوانٍ على المشهد، فى تلك اللحظة كان الطفل يصعد السلّم وهو يغنى بصوت عالٍ: «الله عليك يا سيدى».
لسنوات طويلة ظل الأب يحكى هذه الواقعة للجميع، ثم يتوقف فى منتصف الحكاية ليُقسِم: «عليا الطلاق سمعت أبويا بيضحك جوه النعش»، يكذبونه فيغلظ القَسم: «كان أبى يضحك طول الطريق حتى توقفنا بالنعش أمام المدفن».