قبل نحو أربع سنوات وبمناسبة انكشاف وقائع فضيحة أخلاقية قديمة ومشينة ورهيبة معًا، اضطر الرئيس الأمريكى باراك أوباما أن يقدّم بنفسه آنذاك اعتذارًا علنيًّا ورسميًّا لشعب وحكومة بلد صغير فى أمريكا الوسطى يدعى «جواتيمالا» عن جريمة واحدة فقط من آلاف الجرائم الوحشية التى ارتكبها الغزاة والمستعمرون البيض (أمريكيون وأوروبيون) بحق الشعوب المستضعفة بل والإنسانية جمعاء على مدى تاريخ طويل لم ينتهِ حتى الساعة، وإن تطوَّرت وتغيَّرت أساليب الاستغلال والعدوان والهيمنة وصارت أكثر لؤمًا ونعومة من دون إهمال أو هجرة الوسائل الوحشية القديمة تمامًا (زادت وحشيتها وتفاقمت قدرتها على الفتك والدمار مع قفزات ثورة التقدّم العلمى والتكنولوجى).
أما جريمة جواتيمالا فقد كشفتها البروفيسيرة سوزان ريفبرى، التى تعمل أستاذة وباحثة فى جامعة ويلسلى بولاية ماساتشوستس الأمريكية، عندما نشرت فى مطلع عام 2010 على موقعها الإلكترونى الشخصى بحثًا علميًّا عرضت فيه بالتفصيل وقائع تلك «الجريمة - الفضيحة» التى تتلخّص وقائعها فى قيام فريق أطباء وعلماء تابع لحكومة بلادها فى الفترة بين عامى 1946 و1948 بإجراء تجارب على مئات البشر الجواتيماليين لاختبار وتخليق عقاقير وأمصال لعلاج الأمراض الجنسية أو الوقاية منها، وقالت ريفبرى إن 696 شخصًا ينتمون جميعًا إلى أكثر الفئات غُلبًا وضعفًا فى هذا البلد (سجناء ومرضى محتجزون فى مشافى ومصحات عقلية) تعرض الرجال منهم -عمدًا وبغير علمهم- للحقن بعقاقير محملة بفيروسات متفاوتة القوة تسبب الإصابة بمرضى «الزهرى» و«السيلان»، كما أجبرت النساء على مضاجعة هؤلاء لمعرفة واستخلاص نتائج متعددة، مثل آلية انتقال المرض من الذكور إلى الإناث وقياس شدة الإصابة الكافية لإحداث العدوى.. إلخ.
إذن فقد اعترف الرئيس الأمريكى واعتذر عن جريمة تعجز كل مفردات اللغة عن وصف بشاعتها وخسّتها، لكن هذا الاعتذار الذى تأخّر 64 عامًا كاملة، بدا ضربًا من الضحك على الذقون ومحض لغو وكلامًا فارغًا لا طائل منه ولا فائدة، ليس فقط لأنه خلا من أى إشارة إلى تقديم تعويضات للضحايا وذويهم (لو كان هناك ما يكفى أو يصلح أصلًا لتعويضهم) وإنما الأخطر والأهم خلوّه من أى شىء يفيد التوبة والتخلّى عن نهج الهيمنة والاستغلال والعدوان والعربدة الإجرامية التى ما زالت تستهدف البشر والأوطان بترسانة هائلة ومتنوعة من أدوات السحق الإنسانى التى لا تبدأ بتعميم وفرض نظريات وسياسات ونظم اقتصادية دولية تضمن استمرار سرقة الثروات (وسرقة وطن بأكمله واقتلاع شعبه منه كما حدث فى «فلسطين») ومص دماء الشعوب وحجزها فى سجون التخلّف والعدم بالإضافة إلى تدمير الطبيعة وتخريب بيئة الحياة على سطح الكوكب، كما لا تنتهى هذه الأدوات بأسلحة القتل والإبادة الجماعية لكتل بشرية بأكملها.
ربما لاحظت -عزيزى القارئ- أننى استخدمت فى الفقرة السابقة مفردتَى «تبدأ» و«لا تنتهى»، وما أقصده أن أسلحة وأدوات الإجرام والهيمنة الاستعمارية ليست قاصرة على الوسيلتين المذكورتين فحسب، بل هناك وسائل أخرى لا تقل فاعلية فى التخريب والإيذاء، أخطرها وأبرزها يتجسَّدان حاليًّا -ومنذ عقود طويلة- فى ظاهرة منح «التوكيل الاستعمارى» لقطعان من نخب وجماعات وعصابات محلية (عصابة «إخوان الشياطين» نموذجًا) تتولّى هى مهمة تخريب بلدانها ومجتمعاتها نيابة عن أسيادها الأجانب.
وبالعودة إلى السياق التاريخى الذى وقعت فيه جريمة جواتيمالا سنكتشف أنها كانت واحدة من التطبيقات المبكرة لفكرة «توكيل» العملاء المحليين، فهذا البلد حصل -نظريًّا- على استقلاله من ربقة الاستعمار القديم (الإسبانى) فى عام 1821، لكنه سقط فورًا (كباقى أغلب بلدان أمريكا الوسطى والجنوبية) فى مستنقع النفوذ والهيمنة الأمريكيين اللذين تحققا واستفحلا بمساعدة حكام مأجورين مكّنوا «اليانكى الأمريكى» من أحشاء المجتمع وأجهزة الدولة، بدليل أن فريق العلماء المجرمين الذين قاموا بتجاربهم الوحشية على المواطنين هناك لم يجدوا أى صعوبة تُذكر فى الوصول إلى هؤلاء الضحايا فى السجون والمشافى التى كانوا يقبعون فيها تحت حراسة أجهزة وسلطات «وطنية» اسمًا و«خائنة» حقيقة وفعلًا.