فى مطلع الأربعينيات غنى المونولوجيست محمود شكوكو من تلحين محمد عبد الوهاب «يا جارحة القلب بقزازة لماذا الظلم ده لماذا»، حقق شكوكو شهرة طاغية، وامتلك مشاعر الناس، حتى إنهم أطلقوا عليه شارلى شابلن العرب، وصارت ملامحه أيقونة للمصريين، يطيلون النظر إليه كلما أرادوا أن يتفاءلوا بالحياة، ويضحكوا للدنيا، إنه ملك المونولوج الأول، كما أنه استعاد مسرح العرائس والأراجوز من أجداده الفراعنة، وقدمه للجمهور ضمن برنامجه، فلقد كان هو الفقرة التى ينتظرها الجميع فى الحفلات الغنائية.فى حياة شكوكو موقف لم يسبق أن شاهدناه مع أى فنان من السابقين واللاحقين فى تاريخنا المعاصر، حيث إن المعجبين به صنعوا له تماثيل خاصة بزيه التقليدى الجلباب والزعبوط والعصا، ولم يكن ثمن الحصول على التمثال عملة نقدية كما هو متعارف عليه، لكن كانت الوسيلة أكثر بدائية، وهو ما يطلق عليه فى علم الاقتصاد المقايضة، أى أن الناس تشترى التمثال مقابل زجاجة مياه غازية فارغة، وعرف الشارع المصرى نداء صار لصيقا به وهو «شكوكو بقزازة»، المفروض فى الأحوال العادية أن تعاد هذه الزجاجات إلى الشركة لتعيد تعبئتها، ويحصل بائعها على نقود، لكن المفارقة هى أن رجال المقاومة من الفدائيين المصريين فى أثناء مناهضة الاستعمار البريطانى فى تلك السنوات كانوا يلجؤون إلى هذه الحيلة، ويستحوذون على تلك الزجاجات، ويضعون بداخلها المولوتوف لإلقائها على معسكرات الإنجليز، لإجبارهم على الرحيل عن حدود الوطن، وبالفعل كانت الضربات موجعة للعدو وبوسيلة قليلة التكلفة لم تستطع أن تتصدى لها بنادق ورشاشات الأعداء، ولم يدر شكوكو أنه بتمثاله صار رمزا للبطولة، وملهما للفدائيين، وعندما تناهى إلى سمعه تلك الخطة ازداد تشبثا بموقفه الوطنى، فلم يتراجع أو يتبرأ من هذا الفعل، الذى كان من الممكن أن يؤدى به إلى حبل المشنقة أو القتل رميا بالرصاص، بتهمة الخيانة العظمى، تلك هى علاقة الثقافة المصرية بزجاجة المولوتوف التى نلقيها فقط على من يغتصب الأرض.
وما أبعد الليلة عن البارحة بعد أن أصبح العالم يتابع كل يوم فى «ميديا» الإعلام خبر العثور على زجاجة مولوتوف متفجرة أو فى طريقها للاشتعال قبل أن تتوجه إلى شرطى أو جندى من الجيش أو تجمعات لمصريين على باب الله يلتقطون رزقهم، أو وهم بصحبة أطفالهم يمسكون بأيديهم فى طريقهم للمدرسة، صار البعض من أبناء الوطن يلقيها على أبناء الوطن، بعد أن أصبح السائد الآن أن نتحدث عن فريقين وفسطاطين، بل نغنى بكل أريحية «إحنا شعب وإنتو شعب»، ما الذى أصاب «جينات» بعض المصريين؟ وكيف هانت عليهم أرواح المصريين؟
تاريخ الزجاجة فى الثقافة الشعبية المصرية موغل فى القدم، وهى تستخدم للدلالة على الاستهجان عندما يوصف شاربها بأنه صاحب زجاجة، أو تتحول فى الأفلام القديمة إلى فعل قبيح أسود عندما تقول البطلة التى تم التغرير بها من الشرير بعد أن دفعها إلى منزله بخدعة زيارة أمه المريضة، وقبل أن تكتشف أغراضه الدنيئة كان قد زج لها فى الكأس من زجاجة مشروبا يطلقون عليها على سبيل الدلع والبراءة «حاجة أصفرة أو أحمرة» أدار عقلها وأفقدها من بعده أعز ما تملك، راجع مثلا هذا المشهد تحطيم قعر الزجاجة وتهديد البطل بسنها الحاد المشرشر، أو الإمساك بالراقصة ووضع الزجاجة على عنقها، لكن الشجيع لا يستسلم، ويتمكن فى المشهد الأخير من الانتصار ونزعها من يد الشرير، وهل ننسى تلك الأغنية التى ذاعت شهرتها فى العشرينيات من القرن الماضى «هات القزازة واقعد لاعبنى.. دى المزة طازة.. والحال عاجبنى».
هذه عى علاقتنا بالزجاجة فى التاريخ المعاصر بحلوه ومره، لكن ما يجرى بعد ثورة 30 يونيو فى الشارع المصرى يحيله إلى أثر بعد عين، فهو ليس مونولوجا ولا فيلما أبيض وأسود، الأمن يسعى فى الكشف عن أى خلية إرهابية تريد اغتيال الحياة، لكننا بين الحين والآخر لا نزال نستيقظ على صوت انفجار استخدمت فى تنفيذه زجاجة مولوتوف، بينما مشاعرنا تتوق إلى يوم يعيد إلينا الفرحة، إلى زمن شكوكو و«يا جارحة القلب بقزازة لماذا الظلم ده لماذا».
احتفل «جوجول» أمس بعيد ميلاد شكوكو 102، وأشارك المصريين بتلك الشمعة التى أعيد إشعالها مجددا.