عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، منع المسيحيين من رفع صُلبانهم على الكنائس، وحرمهم من دقّ الأجراس فى صلواتهم!
هل هذا صحيح؟
نعم صحيح، إذا قررت أن تأخذ هذا الكلام من أفواه وُعَّاظ التطرُّف ودُعاة بث الكراهية، لكن لو قرَّرت أن تقرأ كتب التاريخ وتعرف بنفسك إسلامك وزعاماتك الدينية فسوف تجد حقيقة أخرى، بل بمعنى أدق ستجد الحقيقة التى لا أخرى لها!
لن نتحدَّث عن عدل الفاروق عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، بل سنصبُّ صبًّا فى نقطة مفصلية فى عدله، هى تعامله مع أهل الذِّمة، ودعنى أقُل لك إننى أتعامل مع هذا التعبير «أهل الذِّمة» باعتباره تعبيرًا تاريخيًّا، بمعنى أنه انتهى عمليًّا فى البلاد التى حكمها المسلمون بمجرد ما شارك المسيحيون واليهود فى جيوش الدفاع عن بلاد المسلمين (صارت بلادَهم معًا إذن من هذه اللحظة)، وبسقوط الجزية التى نعلم جميعًا (إلا الذى يريد أن يتعامى عن الحقيقة) أنها كانت مفروضة مقابل الحماية العسكرية وإعفاء غير المسلمين من التجنيد، وحين سقط هذا المنع سقطت الجزية ومعها مفهوم أهل الذِّمة، لكن يبقى التعامل الذى يفرضه الحكم الإسلامى فى حينه مع غير المسلمين، وهل تشوبه علامات فوقية وعنصرية وتمييز دينى أم أن الإسلام فى جوهره لا يقبل أصلًا التمييز الدينى؟ ولا يمكن لمسلم عاقل راشد قارئ لتاريخ أُمَّته وفقه دينه أن يتصوَّر للحظة أن الإسلام يميِّز بين مواطنى دولته حَسَب الدين.
تعالَ إلى عمر بن الخطاب نفسه، وهو نموذج العدل الساطع فى تاريخنا الإسلامى، بل لعلَّه الحاكم المسلم الوحيد من بعد النبى، صلى الله عليه وآله وسلم، الذى يتحدَّث المسلمون على مدى أكثر من ألف وأربعمئة سنة عن عدله، فلا أحد آخر إطلاقًا (وهذا للغرابة وللتأمل) صار مضرب المثل فى العدل مع استثناء وحيد نادر ظهر كالوميض فى التاريخ هو عمر بن عبد العزيز. السؤال هنا: هل الفاروق عمر مارس تمييزًا دينيًّا يستند إليه الغلاة والمتطرفون فى دعوتهم إلى التعامل مع المسيحى باعتباره من أهل الذمَّة؟
لا شك أن منع بناء أماكن عبادة جديدة وبيع الخمر وإظهار الصليب ودقّ الناقوس والتعميد هو تدخُّل دينى، لكن لنتأمل بجدية الكلمات التى كانت فى المعاهدات العمرية (سأعتمد هنا على «موسوعة الفاروق» لشمس العلماء شِبْلى النعمانى- طبعة المجلس الأعلى للثقافة). بالنسبة إلى الصليب مثلًا كان فيها هذا الشرط «ولا يعرفون فى نادى أهل الإسلام صليبًا»، فالمفهوم عدم تعليق صلبان فى أماكن المسلمين وليس منعًا مطلقًا لصلبان كنائس المسيحيين أو بيوتهم، وورد هذا فى ما يتعلَّق بالناقوس (الجرس) «يضربون نواقيسهم فى أى ساعة شاؤوا من ليل أو نهار إلا فى أوقات الصلاة»، أى أن الإباحة كاملة إلا ساعة الأذان فقط، وجاء بالنسبة إلى الخنزير «ولا يخرجون خِنزيرًا من منازلهم إلى أَفْنِية المسلمين»، أى أن تربية الخنازير فى البيوت أو فى مزارع خاصة أمر مشروع فى دولة المسلمين للمسيحيين، والممنوع هو وجود الخنزير فى أَفْنِية المسلمين فقط. إذن منع رفع الصليب ودق الناقوس لم يكُن منعًا عامًّا بل كان هذا المنع فى حالات خاصة، والأمر الجدير بالملاحظة هو ما قيل عن أمر عمر بن الخطاب بعدم تعميد أولاد بنى تَغْلِب ليصبحوا نَصارى، لكن الطبرى أورد واقعة بنى تغلب فذكر هذه الكلمات ضمن شروط الصلح: «على أن لا يُنصِّروا وليدًا ممن أسلم آباؤهم»، وذكر هذه الكلمات فى موضع آخر: «أن لا يُنصِّروا أولادهم إذا أسلم آباؤهم». نحن نتحدَّث عن منع تعميد أبناء مسيحيين أسلم آباؤهم لا عن منع التعميد على إطلاقه.
ويستند كثيرون إلى معاهدة بيت المقدس التى كُتبت كلماتها فى حضور عمر، رضى الله عنه، دليلًا على احترام الإسلام لغير المسلمين، وقيل فيها مثلًا: «هذا ما أعطى عبد الله عمرُ أميرُ المؤمنين أهلَ إيلياءَ من الأمان، أعطاهم أمانًا لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم وصلبانهم وسقيمها وبريئها وسائر مِلَّتِها أنه لا تُسكَن كنائسهم ولا تُهدَم ولا يُنتقَص منها ولا من حيِّزها ولا من صلبانهم ولا من شىء من أموالهمولا يُكرَهون على دينهم ولا يضارّ أحد منهم»، وهذا كلام مهم ودقيق ومثالىّ، لكننا يجب أن نلتفت إلى نقطة مُهمَّة هنا هى أن هذه معاهدة بين فاتح أو غازى أرض وأهل البلد، وإذا كانت هذه معاملة مع شعب فتح غرباء بلده وحكموه، فماذا تتوقَّع من معاملة مع شعب توحَّد وصار مُحتلُّه مُحرِّرَه، وطارئُه أصيلَه، ورعيتُه مواطنين، ومسلموه ومسيحيّوه مجندين فى جيش واحد؟
يكفى -إن كان لك فى عمر بن الخطاب مثلٌ ونموذجٌ وقدوةٌ- أنه عاش ما عاش من عمره وحكمه ولديه غلام مسيحى، حاول أن يحبِّبه ويرغِّبه فى قبول الإسلام ويدخل فى دين أميره، لكن الغلام أبَى ورفض تمامًا وظل مُتمسِّكًا بالمسيحية، فكان عمر حتى مات ينصرف عن حوار غلامه وهو يقول «لا إكراه فى الدين».
أما إذا أردت أن تمشى وراء أحد غير عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، فأنت بالتأكيد حُر، لكن أيضًا لا تغضب أرجوك ممن يمشى وراء سيدنا عمر!