أفكر طويلاً قبل البدء فى الكتابة دائماً، خاصة وأنا فى السجن، فبخلاف كونها عملية مرهقة فى طبيعتها يضاف عبء ما ينتظره الناس منك، باعتبارك رمزاً فى نظرهم.. يفترض أن تمنحهم الأمل، وتؤكد لهم الصمود وأحياناً تقترح عليهم ما تراه مناسباً لـ«اللحظة» من تحركات ومواقف.. وهذه كلها أمور لن أدعى أننى قادر على القيام بها، على الأقل وأنا أكتب الآن من داخل قفص المحكمة بانتظار حكم جديد، ربما يضاف لسلسلة الأحكام التى صدرت ضدى على مدى السنين التسع الماضية والتى تقترب الآن من سبع سنين متفرقات، قضيت منها أكثر من أربع سنين فى سجون عدة وأنظمة مختلفة وبتهم متشابهة، ولا يعلم سوى الله متى ستنتهى!
وعلى الرغم من هذا فإننى أظننى محتاجاً للكتابة الآن ليس رغبة بقدر ما هو افتقاد لما سأقوله بين ما أقرؤه، وأسمعه- وإن لم يكن مهماً- فهى طبائع السجن.. عزلتك فيه تفرض غالباً هذا الافتقاد.. هى محاولة لطرح ما لم أره يطرح فى ظل سير «المجموع» فى اتجاه واحد، لا أظنهم يسيرون فيه اقتناعاً بقدر ما يفعلون استسهالاً، أو «ربما إجباراً».
يتناقشون- ونحن معهم أحياناً- حول خرقنا قانون التظاهر والاعتداء على قوات الأمن فيهاجمون غالباً ويترأفون حينا حتى نجد أرأفهم يعترف بخطئنا، لكنه يختلف مع الدولة فى شكل العقاب.. يتحدثون عن أخطائنا التى لا يعرفون عنها سوى ما جاء فى محضر تحريات.. لكنهم لا يتجرأون على سؤال الداخلية إذا ما كانت طبقت ما ينص عليه قانون التظاهر ذاته بخصوص التعامل مع التظاهرات أو فضها أم أنها استسهلت البطش والاعتداء والقمع.. يحملوننا مسؤولية تظاهرة- لم تحدث أصلاً- لكنهم لا يتجرأون على تحميل الرئيس- القاضى- ومن معه مسؤولية إصدار قانون يخالف الدستور الذى صنعوه بأيديهم، ثم يحدثوننا نحن عن دولة القانون.
يتهموننا بالبلطجة رغم أن أحدهم لم يكلف نفسه عناء مشاهدة أدلة الثبوت ولا حتى السماع لشهادة الشهود- وهم من ضباط الشرطة- والتى تبرئنا تماماً نحن الثلاثة، وتنفى عنا أى تهمة من التهم الملفقة التى حوكمنا بها.. وما شاهدوا أيضاً أفراد الأمن المركزى وهم يحطمون المقهى، ويعتدون على المارة والصحفيين بغير رادع ولا حاكم.. سوى أنهم تلقوا الأوامر من ذات القيادة الأمنية بذلك.. أو ربما يكونون شاهدوا، لكنهم يخشون مواجهة المجرم الحقيقى!
يعلمون يقيناً- بل يسرون فى جلساتهم الخاصة رفضهم عناد السلطة واعتباره «كفراً».. وعلى الرغم من ذلك وغيره يتهموننا نحن بالعناد والمعارضة من أجل المعارضة.
يتهموننا بالارتماء فى أحضان الأمريكان والغرب، فى ذات الوقت الذى يحتفلون فيه بمجرد صدور خبر أو تقرير يؤيدهم أو أى صحيفة أجنبية، ولو كانت تافهة، ويرسلون كذلك وفوداً شعبية لإقناع هؤلاء الأعداد (الغرب والأمريكان) بأن 30 يونيو ثورة، وليست انقلاباً، ويتسولون المعونات بشكل فاضح.. ثم يزيد فجورهم، ويرسلون ملفاً لعدد من السفارات الأجنبية والمنظمات الدولية يحتوى صوراً ومقالات وفيديوهات لى تخص فترة وجودى فى قطاع غزة 2008م وما بعدها وقت الحرب حاملاً السلاح فى وجه الصهاينة ليلوموا هذه الدول والمنظمات على دعم «إرهابى» مثلى يعادى إسرائيل.. وفى هذا كله لن يجرؤ أحد على مواجهتهم ولا حتى سؤالهم.. فنحن دوماً الخونة والعملاء!
لا يسأل أحدهم نفسه، فالأسئلة تعرينا، وتفضح ما يستره صمتنا وتواطؤنا، والأسهل اتهامنا وتشويهنا من ذات الأشخاص زمن كانوا، قبل بضعة أشهر، يتغنون ببطولاتنا وبسالتنا ونضالنا وهكذا... الدنيا خاصة فى بلادى لا يدوم لها حال!
حتى أصدقاؤنا القدامى يعلمون جيداً- وهم أصدقاء السلطة اليوم- أن الوعود التى حصلوا عليها مراراً لم تكن سوى استهزاء لن يتوقف بهم واستخفاف بقيمة مطالبهم.. ووضع لهم فى موضعهم الصحيح كتوافه لا قيمة لها ولا لكلامها، لكنهم يقيناً سيتعامون عن ذلك كله، ولن يتوقفوا عن التطبيل والتهليل للسلطة، لأن المصلحة معها ليس حباً ولا اقتناعاً بقدر ما هو يقين بأن عقوبة التجرؤ على المواجهة أو حتى الحديث غالباً- ستكون صحبتنا فى الزنازين المجاورة.. حقاً اعتياد الراحة ينسى المرء حتى المناضلين خشونة البرش ووحشة الزنزانة ولذة التضحية.
لم أقل لكم أنه لا داعى لأن أكتب.. فلن أقول غالباً ما تنتظرونه.. ربما أكون قد انتهيت الآن، لكن الأسئلة لم تنته، لأن الجرائم لم تتوقف، والثورة كذلك، ولن تتوقف ما بقينا هكذا نتعامى عن الحقائق نخشى الأسئلة.. ونألف الراحة!
*شاعر وعضو اتحاد الكتاب