زيارتى مؤخرا بيروت أشعلت خلية التداعيات، وتدفق سيل الذكريات بين الحين والآخر، من وصولى على سطح باخرة إيطالية من الإسكندرية فى يوم ممطر، حاملاً قلبا يخفق ورؤية ضبابية نحو مستقبل مجهول.
فقد كنت استقلت حديثا بعد عام فقط من لجنة القراءة والسيناريو بالشركة العامة للإنتاج السينمائى، تحت إدارة المخرج صلاح أبو سيف، وتنازلت عن راتب العشرين جنيها -دخلى الوحيد فى الحياة- وقد بلغت الاثنين والعشرين من عمرى، أيقنت أن قراءة سيناريوهات الآخرين لن تلبى طموحاتى السينمائية.
قرارى اعتبره البعض قرارا طائشا، بينما هو فى الواقع سمة من سمات شخصيتى المغامرة التى كانت تظهر كل حين، فذهابى إلى بيروت مغامرة مثلها مثل مغادرتى لها بعد عامين، ثمارها هو احتكاكى بآليات السينما كمساعد مخرج «الليالى الحلوة، إخراج جمال فارس - الرهينة، إخراج يوسف معلوف - إنتربول فى بيروت، إخراج كوستانوف - مغامرات فلفلة، إخراج فاروق عجرمة»، كانت مجرد سينما فارغة من أى أحلام ومرصصة بالتفاهات تحت ادعاء أنها سينما التسالى، بينما التسلية الحقيقية وجدتها فى قزقزة اللب وتقشير الفستق مع مشاهدة الأفلام ومغازلة فتيات بيروت الجميلات.
وصولى بيروت ذلك الصباح الممطر بعد ليلة بلا نوم فوق سطح الباخرة -أرخص وسيلة للسفر- لأجد فى استقبالى مندوب الدكتور -معرفة والدى- الذى استضافنى مؤقتا فى حجرة من حجرات مستشفاه الخاص فى حى المزرعة.
وكانت بيروت فى مرحلة نقاء بعد حرب أهلية استنزفت قواها، وأصبح الصليب أو الهلال إعلانا لهوية كل لبنانى، إما تزين سيارته أو قلادة على صدره، ولم يكن مستبعدا وجود مسدس فى صندوق تابلوه السيارة أو مخفى فى حوزته. هذا التوتر ما بعد بركان التعصب الدينى، سينفجر مرة أخرى بعد عدة سنوات، لكن تظل سنوات الهدوء بعد العاصفة منتعشة فنيا على الأقل.
ساحة البرج محاطة بالسينمات، ريفولى على رأسها، وأمبير، وسيتى بالاس، ودنيا، ومتروبول، وأوبرا، وراديو سيتى، وروكسى، وستاركو، وبيجال، والجندول، وأحدثها بيبلوس، كلها للعروض الأولى غير سينمات عرض فيلمين فى نفس الوقت كعروض ثانية، نحو عشرين دار عرض فى محيط واحد، جنة لعشاق السينما، لم يدر أحد حينذاك أنها ستتحول بعد سنوات قليلة إلى جحيم وأنقاض نتاج الحرب التى اشتعلت فى منتصف السبعينيات.
أما السنتان اللتان قضيتهما فى بيروت من ١٩٦٤ إلى ٦٦، فهما سنتا اللهو والغراميات وعشق مطلق للحياة، وأهم من كل هذا اكتشافى أن الأربعة أفلام التى عملت بها ليست بالسينما التى أسعى إليها، وأن ما أريده من السينما حين تتاح لى الفرصة سيكون شيئا آخر بالمرة.